الأربعاء، 16 أغسطس 2017

الموت لن يحدث أبداً، لأننا دوما نموت في الماضي ...!


الموت لن يحدث أبداً، لأننا دوما نموت في الماضي ...!


هل ثمة فرق بين تصورنا للمستقبل والماضي، من جهة حضور الأنا في كل منهما؟ هل عندما نتخيل المستقبل حتى البعيد، نشعر بأننا موجودون به، وهل نشعر بذات الشيء عندما نتصور الماضي البعيد؟

عند التأمل التلقائي، نجد أننا حاضرون في المستقبل عند تصوره، لكن لا نجد ذلك عند تصور الماضي، ويبدو هذا طبيعياً، إذ حقا نحن لا نأبه عند تصور الماضي البعيد أن لا نكون به، لأننا لم ننوجد بعد، لكن يصعب علينا تصور عدم وجودنا في المستقبل، إذ يؤكد ذلك على طبيعتنا الفانية، التي تخالف غريزة الحياة القابعة فينا، فتصور المستقبل من دوننا هو إقرار بأننا كائنات فانية، ويراوغ التصورُ الشعورَ، وتكون "الأنا" حاضرة بقوة، فنغفل بتلقائية اللحظة عن حقيقة أننا لن نعيش أبدا، بل سوف نتلاشى في المستقبل من هذا الوجود.

الكجيطو الديكارتي، الذي يؤكد على أن كوننا نفكر هو برهان على أننا موجودون، يتفق مع هذا الفكرة، إذ يؤكد دور الشعور في تأكيد حضور الأنا، ويتفق ذلك وجوديا مع غريزة الحياة التي تنحو إلى الإصرار على وجودنا في هذا الحياة، وجودا متعينا حقيقيا، لا وجودا مجردا، والكجيطو هو تأكيد وجودي لا يُفهم فقط في الحاضر، بل الأحرى في المستقبل، إذ "أكون" تدل على صيرورة الوجود فيما سيأتي مستقبلا...

إن الموت لا يحدث إلا بالمستقبل، لذا لا نعرف حقا متى نموت، يأتي فجأة، ويقبض على أرواحنا، منذ الميلاد، ونحن نعلم أن اعمارنا سوف تنقضي يوما ما، لكن لا نقدر أن نتنبأ، فقدرنا محجوب بالمستقبل، بل نحرص كل الحرص على إطالة أعمارنا بقدر المستطاع، وإن كنّا ندرك أن ذلك لن يشكل فرقا في المشهد الأخير قبل أن يطوينا الردى، إذ هو مشهد واحد يتكرر للأبد في كل حياة! وفي هذا السياق، يحضرني مقولة ابيقور العميقة التي تقول: "لا تقلق من الموت، فإن جاء لن تكون عندئذ موجودا". في الواقع، إن تأملنا الأمر بعمق، نجد أن الموت لن يحدث أبدا، لأنه يأتي دوما في المستقبل، ومن ثم نحن حقا لا نموت أبدا، إذ نحن لا نموت حقا إلا في الماضي!

وهي مفارقة أن الموت في طي المستقبل، ولكن وجودنا ذاته، هو قيد الموت!  ومن هنا تتعارض "الأنا" مع الموت، إذ أنهما لا يلتقيان إلا في بؤرة القلق من الفناء، والموت من هذا المنظور، لا يحدث بالنسبة لنا إلا في الماضي، وذلك من حيث أنه لا يحضر إلا في المستقبل!

يتضح ذلك، في مفارقة نلحظها في حياتنا، عند تحليل وعينا بالزمن (كما فعل أدموند هوسرل)، نجد أن الزمان لا وجود له حقا الا في المستقبل، لكن من حيث أنه لا يحضر أبداً; الماضي يكون قد مضى بمجرد أن نشعر به، والحاضر ان شرعنا بالشعور به يصبح عندئذ ماضيا، فلا نعيه إلا كذلك، وفي ذات اللحظة، نكون عندئذ قد دخلنا المستقبل الذي بدوره عند حضوره لن يكون مستقبلا، بل ماضي قد مضى! لذلك المستقبل الحقيقي هو الذي لا يأتي أبدا، هو أقرب ما يكون إلى الانتظار منه إلى الحضور، ترقب المجهول الذي لا يزال رهن "العدم"!

رأى مارتن هيدجر ان الوجود الإنساني هو وجود هناك (هذا معنى الدايزن حرفيا)، اي أنه مشروع كي يكون، وليس كائنا أو كان بالمطلق، ليس وجودا مكتملا، لأنه بمجرد أن يكتمل يكون قد مات، لكن الموت مرهون بتحقيق امكانياتنا في المستقبل الذي لا يأتي أبدا، من هنا يرى بأن وجودنا هو "كينونة -صوب- الموت"، وأن الموت هو تحقيق امكانياتنا القصوى.

إننا نعترف بالموت من حيث أننا ننكره دوما، لأننا أولا: لا نعرف متى يحدث، و ثانيا: لأن حضور الموت المطلق هو تعطيل لرغبة الحياة وإرادتها، فمن منا يمكن أن ينجز، وشعور الموت مهيمن عليه، بل غياب حضور الموت هو الذي يشعل شعلة الحياة فينا، ويدفعنا إلى العمل والبناء.  لعل هذا يجلو سبب تعجبنا عندما نرى طاعنا بالسن مقبلا على الحياة بكل ملذاتها، وهو يعرف –زمانيا- بان موته قد دنى.

هنا الموت تماما مثل الوجود (الكينونة) لا يحضر حضورا تاما، ولا يغيب غيابا تاما، بل هو وجود "بين وبين"، بقدر ما ينكشف فإنه يختفي، وبقدر ما يظهر، فإنه يتوارى. وهذا التنازع بين الحضور والغياب في الموت هو الطاقة التي تبعث فينا الحياة!

لننظر إلى الفعل الحضاري، لنرَ كيف يحدث ذلك، إن بناء الحضارات، لا يفهم وحسب من منظور عيش الإنسان ومباشرة احتياجاته المادية، وإنما يفهم كذلك من منظور فنائه وشعوره الروحي. الحضارة (أو بالمصطلح الخلدوني العمران) لا يكون إلا لأن الانسان يموت، لذا يسعى الإنسان أن يترك أثرا من حياته بعد أن يفنى، أثرا يجعله مخلّدا، وهذا ما يشكل "جوهر" الحضارة; الإنسان يشيد الحضارات، لأنه يصبو إلى الخلود، ولأنه كذلك يفنى، بل إن فناءه هو الدافع الأكبر وراء تشييده للحضارات، ولولا أنه يموت، لما أنتج حضارة، لأنها عبارة عن "شاهد" لا على خلود البشرية وحسب، بل أيضا على فناء الإنسان، يلامس القرآن هذه الحقيقة عندما يؤكد على شاهد آثار الأمم التي اصبح عاقبتها الزوال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )، ولا عجب ان سجل لنا التاريخ على أن اول حضارة (وهي السومرية) هي أول حضارة عرفت التدوين، فمهد الحضارة هو تدوينها كشاهد على فنائها!

التدوين هي شهادة على فناء الانسان، اننا نكتب كي يقرأ من يأتوا بعدنا لأننا نعي اننا نموت!...  ولا عجب ان تكون ثيمة اول ملحمة بشرية، قد دُونت، وهي ملحمة جلجامش، تتعاطى مع فكرة الخلود والفناء... هنا الكتابة "موت صغير" أيضا!

هناك شاهد تاريخي آخر، يكمن في الفارق بين "الزقورات" التي وجدت في بلاد ما بين النهرين، وبين الأهرامات الفرعونية، رغم تشابهما في الشكل الهندسي، إذ كلاهما مبنيان على صورة مثلث هرمي، لكن يختلفان في "فكرة" العمران- أي في التصور الذي دفع إلى بنائهما ، أول ما يستوقفنا أن الأهرامات ليست مجرد معابد، كما هو الحال في الزقورات، بل هي مقابر شُيدت كي توفر أسباب الحياة للميت في الحياة الآخرة، وهنا تتفوق الأهرامات على الزقورات وذلك من خلال دلالة رمزيتها التي تشير إلى علاقة الموت بالخلود، خلود ما بعد الموت في الحياة الآخرة، وتشهد على علاقة ذلك بجوهر الحضارة الذي تحدثت عنه آنفا، وهو أن الموت صنو الحياة وينبوعه، فرغم أن الزقورات معابد إلا أن الأهرامات حملت مضامين دينية أكبر منها، لأنها أساسا بنيت كي تكون منازلا للفراعنة ، بعد أن يبعثوا إلى الحياة مرة أخرى، ولذلك حرصوا على تحنيط الجثث وحفظها كمومياءات، ودفن مقتنيات الميت، سيما النفيس منها، معه في القبر، وكما هو معلوم في تاريخ الأديان، أول من آمن بفكرة الحياة بعد الموت -كما سُجل لنا في كتاب الموتى المصري- هم الفراعنة، ومن هنا جاءت فكرة الأهرامات العظيمة البناء، هي مقابر شيدت كي توفر الحياة بعد الموت.

بمعنى آخر هي امتداد للحياة لا نهاية له، رمز على العلاقة الوطيدة بين الحياة والموت، تؤكد على اتحادهما في رباط واحد، لا على تعارضهما، ومن حيث الغاية. الهرم –إذن- شاهد على المستقبل، لا الماضي، فمن حيث أنه بناء حضاري هو أثر على استمرار للحياة إلى اقصى مدى ممكن، إذ ركيزة اهتمامه هو هذا المستقبل الذي آمن به المصريون القدماء في الحياة بعد الموت، وكان هذا ما شجع على بناء هذه المقابر الضخمة، رغم الثمن الباهض الذي دفعه آلاف الفلاحين من ارواحهم كي يشيدونها!

الشائع هو النظر إلى الحضارة من منظور ما يبقى، وليس من منظور ما يفنى، أي أن ننظر إلى الحياة من منظور الموت، وليس الموت من منظور الحياة، في المنظور الأول، الفعل الحضاري لا يبدو "نزاعا" مع الموت، بقدر ما هو تأكيد له بصفته امتدادا للحياة، شاهدا لها، تماما كنصب تذكاري لتخليد ذكر أناس ماتوا أو لحظة تاريخية مضت، فهذا "الفناء" هو الذي يمثل جوهر البقاء، أي أن ما يجعل النصب "نصبا" هو انقضاء شكل النصب سواء كان لأناس أو للحظات تاريخية.  

وهذا يقودنا إلى فكرة "النصب التذكاري" الذي تناوله مارتن هيدجر، بينما كان يتحدث عن ماهية الفن، وقد صفه بأنه الموت الذي يطل علينا (نحن الذي نعيش ما هو مستقبل لهذا النصب) من الماضي السحيق. إن العمران الحضاري هو أشبه ما يكون بنصب التذكار، فرغم أنه يطل علينا من الماضي السحيق إلا أنه يستشرف المستقبل، تماما مثل الموت الذي لا يحدث إلا في الماضي، كي يكون شاهداً على المستقبل. العمران الحضاري عبارة عن نصب يخبرنا ان الموت لا يمكن ان يحدث قط، لأنه يحدث دوما في المستقبل حيث نكون أصلا غير موجودين، وهي ذات حكمة ابيقور فيلسوف اللذة، الموت يأتي بعد ألا نكون، وإذن فهو لن يحدث أبداً!

---

سليمان السلطان
17 اغسطس 2017