الجمعة، 13 يونيو 2014

الحقيقة بين العلم والفن


العلم أقرب إلى الأسطورة أكثر مما يحلو لفلسفة العلم أن تعترف به.

بول فيرابند، فيلسوف فرنسي 







   مقطوعة شعرية غنائية لا حقيقة لها تغنى بها رجل "بدائي" في كوخه المصنوع من القش هي أكثر "حقيقة" من حقيقة "الحقيقة" ذاتها، بحسب مفهوم الحقيقة كما يقدمها العلم لنا!!!...

قد يبدو هذا القول مربكا إلى حد كبير، لأننا اعتدنا على تعريفات معينة عن العلم والفن، والأهم من ذلك عن الحقيقة ذاتها، كما شاعت في حقل الفلسفة قديما، إذ قدمت على أنها "مطابقة الفكرة للشيء في الخارج" أي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان! وهو تعريف لقى نقدا كبيرا من هيدجر، لكن بغض النظر عن ذلك، فإن العلم ذاته لم يقدر أن يثبت هذه الحقيقة -كما يعرّفها هو - اثباتا مطلقا.

الحقيقة نسبية!

كتب فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر كتابه "الأورجانون الجديد"، معارضا كتاب أرسطو في المنطق الصوري الذي يحمل ذات الاسم "الأورجانون"، وهو يؤسس للمنهج التجريبي الذي أضحى أساس شروط تأسيس الحقيقة لدى العلم، وذلك من خلال رصد القوانين الطبيعية الثابتة من خلال المنهج الاستقرائي المعروف، وقد استبعد بيكون منطق أرسطو الصوري الذي يقوم على استنباطات عقلية، لكن حتى منهج بيكون لم يكن آلة -كما تصور- قادرة أن تفضي بنا إلى الحقيقة، فلقد لقى الأورجانون الجديد أيضا نقدا شديدا لاحقا، لأن الحقائق التي يزيل اللثام عنها ليست ثابتة، كما كان يعتقد بل هي متغيرة، فإن استقر المنهج التجريبي على "حقيقة" ما تتبعا لمسار المنهج الاستقرائي، تأتي حقيقة أخرى لاحقا فتحل محلها بذات المنهج! كما رصد ذلك بذكاء توماس كون في كتابه الشهير "ثورة البنيات العلمية". والمثال النموذجي على ذلك، نظام بطليموس الفلكي الذي ظل يقدم نفسه منذ القرن الأول على أنه "الحقيقة" التي تمثل نظام الكون والعالم، ومرت خمسة قرون حتى قدوم كوبرنيكس ليثبت بطلان نظام بطليموس الكوني، ثم يصوغ لنا نظاما آخر تحتل فيه الشمس المركز بدلا من الأرض التي ظن بطليموس أنها مركز الكون.

فيزياء نيوتن –كمثال آخر- ابطلتها الفيزياء النسبية لآنشتاين من حيث أنها تمثل "الحقيقة"، لكنها لا تزال فاعلةً من حيث أنها "عملية" وحسب، وليس كل ما هو عملي ونفعي هو حقيقي، فمملكة الحقيقة أكبر من مملكة العملي والنفعي، فالنيوتنية كما يعترف بذلك الفيزياء الحديثة ليست صائبة بالمطلق، كما أثبت ذلك آنشتاين لكن مع ذلك لا تزال هي النظرية التي تهيمن على العلم، لأنها "عملية"!

في القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات من داخل التيار الوضعي "العلومي" تَستخّف من شأن الفن والأدب، بحكم أنهما من مخلفات عصور غابرة حيث كانت الخرافة هي الطاغية دون "الحقيقة العلمية"، وتعاظمت هذه الدعوة لدى حلقة فيينا الوضعية المنطقية في مطلع القرن العشرين، فقالت بأن القضية (الجملة مع بعض التجاوز) الميتافيزيقية (وهي فارغة -في نظرهم- أي أنها لا تدل على شيء يمكن أن نحكم بشأنه أما حقا أو باطلا!) ليست إلا صورة أخرى من صور الشعر والأدب، وليست من القضايا التي تخبرنا عن الحقيقة (بالمعنى العلمي لها)، ويتضمن ذلك احتقارا للشعر والأدب، ناهيك عن الميتافيزيقا! فحظ الشعر من الحقيقة لا يزيد عن حظ الميتافيزيقا منها كذلك! في هذا الرأي هناك مصادرة لمعنى "الحقيقة" ناهيك على اتخاذه احكاما متسرعة ضد ما يخالفها!

لكن ملحمة الالياذة -مثلا- لهوميروس التي تعود في إحدى الأقوال الأكثر متانة إلى القرن العاشر قبل الميلاد لا تزال تعرب لنا عن ذات الحقائق عن البطولة والحب والخيانة والمكر والخوف وغير ذلك من أحوال البشرية التي حاولت النزعة الوضعية أن تقولبها في قوالب ثابتة كما الشأن في معادلات العلم الرياضية، كي تكون علما بذات المعنى للعلم في العلوم الطبيعية Sciences . فهي من ثم تخبرنا عن الحقيقة أكثر من الحقيقة كما يفهمها هؤلاء بالمعنى الضيق للحقيقة، فليس هناك أكبر "حقيقة" من حقيقة الإنسان، وهي مدار ملحمة هوميرس التي أعرب عنها في قالب أسطوري تتدخل فيه الآلهة كما تتدخل فيه قوانين الطبيعة!!!

ولتمثال أبي الهول "الخرافي" -كمثال آخر- الذي هو عبارة عن رأس انسان بجسد حيوان دلالةٌ على رجوع جذور الإنسان والحيون إلى "أصل واحد" تلك العلاقة التي رمز عنها بالطوطمية ظل يَعْرِب لنا عن الحقيقة أكثر مما أعرب عن ذلك نظرية أبقراط (ابي الطب) عن أخلاط الجسد العضوية وعلاقتها بمزاج الشخصية، رغم أن الفارق بينهما قرون تاريخيا!

إن  باعث رغبة النزعة الوضعية في أن تحيل العلوم الإنسانية إلى علوم وضعية هو أن نستنتج منها قوانين ثابتة يمكن من خلالها التنبؤ بالسلوك الإنساني كما أمكن التنبؤ بقوانين الطبيعة وبذلك تجعل من العلوم الإنسانية موازيةً لعلوم الطبيعية، كي يمكن لها أن تتقدم في مقاربتها للحقيقة، كما فعلت ذلك العلوم الطبيعية، إذ كان التساؤل  المطروح في البدء لماذا استطاعت العلوم الطبيعية أن تتقدم بينما اخفقت بذلك الميتافيزيقا... وهو سؤال مغلوط من الأساس لأنه لم يتساءل عن معنى "التقدم" ومعنى "الحقيقة" و"المعرفة"!

لكن - ويا لسخرية القدر - الفنون الإنسانية وآدابها ثبتت كحقائق أكثر من حقائق هذه العلوم الطبيعية. فليس المهم هو رصد القوانين الثابتة، كما يريد ذلك المنهج الاستقرائي (هذا إن كان ثمة قوانين ثابتة حقا!)، ولكن وجود "حقائق" مدار القياس فيها هو الوجود الأنطولوجي، وهو وجود ذو طبيعة صيرورية، وليس مدارها التقنين المعياري، و بهذا المعنى هي ليست معنية بالثابت والمستقر، ولا بالعملي والنفعي، ولا بالمطابقة، بل بالحقيقة من حيث أنها شيء آخر بخلاف ما تُقدم لنا من قبل اصحاب المنهج العلمي، بل الحقيقة من حيث أنها صيرورة وتغير واختلاف... والأهم من كل ذلك إنسانية!

من هنا حقائق الفنون أكثر "حقيقية" من حقائق العلوم! ولعل الفن لذلك هو الذي يستحق صفة "الحقيقي" أكثر من المعارف والعلوم الطبيعية!