الخميس، 16 أبريل 2015

الإنسان الأول والأخير في الحداثة الليبرالية

الإنسان الأول والأخير في الحداثة الليبرالية

لأن "الإنسان الأول" هو إنسان ليبرالي، إذن هو الإنسان الأخير الذي يكتمل به التاريخ البشري...!

لعلّ هذه المقولة تختصر أطروحة "فرنسيس فوكوياما" التي بسطها بالتفصيل في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، فأثارت زوبعة من الجدل... يذهب فوكوياما إلى أن التاريخ قد بلغ نهايته الآن مع وصول البشرية للنموذج الليبرالي الغربي، و"النهاية" هنا لا تعني - طبعاً - "الختام"، ولكن تفيد بلوغ الكمال – أي الوصول إلى النظام الأمثل للحياة الإنسانية... وعليه تنبأ فوكوياما بأن كل الشعوب في نهاية المطاف سوف تحذوا حذو البلدان الليبرالية!

ولم يخفِ فوكوياما أمر أنه استلهم أطروحته من هيجل ذاته، بل لعله تبجح في ذلك، فقد سطى من قبله كارل ماركس (وهو منظر الطرح المعارض لرأي فوكوياما، والذي ثبت خطأه) على آراء هيجل في الجدل الديكالطيقي وفلسفة التاريخ، ثم "قلبها رأساً على عقب"، ولعل هذا ما كان يريده فوكوياما أيضاً، لذا لم يكترث بتفسير فلسفة هيجل ذاتها، بقدر ما أهتم بتفسير "الكسندر كوجيف" لها، ويقول فوكوياما في هذا الشأن: "إن ما يهمّنا الآن ليس هيغل بذاته، وإنما هيغل كما يفسره كوجيف"، لأنه رأى في قراءة " كوجيف" لهيجل أفكاراً تدعم قناعاته التي تنّتصر لليبرالية تاريخياً، استناداً على فطرة النفس البشرية، فقد ارتكزت قراءة "كوجيف" على مبدأ "الصراع من أجل الاعتراف" لدى الإنسان الأول لفهم تطور التاريخ، يقول معقباً على هذه الفكرة: " تمكننا نظرة "الاعتراف" من إنقاذ الديالكتيك غير المادي الذي يبدو أغنى بكثير في فهمه للدوافع الإنسانية من النظرة الماركسية أو من الطريقة السوسيولوجية التي انبثقت عن ماركس". (نهاية التاريخ والإنسان الأخير – ص: 152)

هنا يجد فوكوياما ضالته المنشودة، فالتاريخ يتجه إلى الليبرالية اتجاهاً حتمياً، لأن الركائز التي تقوم عليها الليبرالية - كما يلمح فوكوياما - مجبولة في فطرة الإنسان، وهكذا يمكن أن نقول عنها - مع بعض التصرف - بأنها "حتمية"، لأنها تنبع من داخل الإنسان ذاته – هي حتمية بمعنى أنها تعبر عن "الواقع الإنساني الطبيعي"، إذ ليس في مقدور الإنسان مخالفة القوانين الطبيعة دوما في تاريخ البشرية، وإن استطاع الانحراف عنها في حقبة ما، فهذا أمر عابر وعارض، إذ مهما طال هذا "الاغتراب" عن الطبيعة، فلابدّ للإنسان أن يؤوب إلى حالته الأولى، لأنه جزء لا يتجزأ من قوانين الطبيعة! لذا ينبغي أن نصوّب أنظارنا إلى أعماق الإنسان من حيث كونه "إنساناً" ، ونستبعد كل الأنساق الخارجية الأخرى سواء كانت اقتصادية أو سوسيولوجية لكي نقف على حقيقته المجردة... مأربنا إذن - بحسب أطروحة فوكوياما - الإنسان من حيث هو إنسان لكي نكشف عن الإرادة الأولى للإنسان، وهو في حلّ عن كل القيود والأغلال التي قد تمنعه من الانبثاق بكل حرية وطلاقة... وهذه الإرادة – إذنْ - تنحو إلى المبادئ الليبرالية – من هنا تأتي شكيمتها وقوتها في التاريخ البشري!

ولم يبالغ فوكوياما في مرامه هذا، فطرقُ موضوعِ الليبرالية من هذا المنظور بدا له طيّعاً... فـ"الليبرالية" ظهرتْ أصلاً من تأمل حالة الإنسان الأول، وذلك ما قام به فلاسفة عصر التنوير في أوربا. ففي ظل التنظير لمفهوم "الإنسان الأول"، نشأ مفهوم إرادة الشعب والحريات العامة والفردية والملكية الخاصة والتمثيل السياسي (البرلماني) والعلمانية، وغيرها من المبادئ الليبرالية الأخرى التي يمكن إرجاع فضلها إلى "الإنسان الأول".

قصة البحث عن "الإنسان الأول" بدأت فعلاً لدى هوجو كروتس ( Hugo Grotius ) الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر، وهو القرن الذي شهد جدلاً واسعاً حول نظريات كبرى في السياسة تمحورت كلها حول "العقد الاجتماعي" في ظل نظرية الإنسان الأول التي نحن بصددها هنا...

لقد لفتَ كروتس الأنظار إلى أن هناك غريزة طبيعية لدى كل فرد تحضّه على الحفاظ على حياته، هذه الغريزة هي التي أوجدت القوانين الأخلاقية التي نظمت المجتمع، فكروتس هنا ينطلق من فكرة أضحت في غاية الأهمية في الفكر الليبرالي، وهي أن الفرد هو أساس المجتمع، وبالتالي، لابد أن نحافظ على حقوق هذا الفرد، لأنها أساس الميثاق الاجتماعي الذي رضا به الناس، وهو ميثاق عُقد على أساس حقوق طبيعية – وهذه هي أيضًا الفكرة الأخرى المهمة التي قدمها كروتس للفكر الليبرالي – وبالتالي هي حقوق لا تقبل الجدل أو الشك، إذ أنها تبرهن على ذاتها بذاتها، وليست في حاجة إلى أي برهان خارجي سواء كان سياسياً أو دينياً.

لكن كروتس لم يذهب بعيداً في هذه الرؤية، ولم يشمل قضايا مهمة في هذا المضمار، بل أن التوسع في هذا البحث قد بدأه "توماس هوبز"، وذلك من خلال كتابه الشهير "اللوفيثان" (Leviathan) الذي قام بتأليفه في مواجهة الأحداث السياسية المضطربة التي جرت في القرن السابع عشر في انجلترا، فقد كان الحكم الملكي مهدداً بالزوال... ورغم أن هوبز كان يؤيد الحكم المطلق للملِك، إلا أنه مهد الطريق للفكر الليبرالية المتحرّر، وتجلّى هذا في رؤيته للعلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم، فقد عَلّمنت المؤسسة السياسية، فلم يعد الملك هو ظل الله في الأرض، ولكنه ممثل الشعب، وهو بذلك كان "أول من وضع المبدأ الذي بموجبه تتخذّ شرعية الحكم أصلها في حقوق المحكومين بدلاً من الحق الإلهي للملوك ومن التفوق الطبيعي للحاكمين" (نهاية التاريخ – ص160).

كما أنه أول من استحضر نظرية "العقد الاجتماعي" في ظل مفهوم السيادة المطلقة للدولة... فالإنسان الأول لدى هوبز إنسان تنزع سجاياه إلى الشر والطمع والبغي، والحالة الأولى للبشرية على حسب تعبير هوبز هي "الكل في حالة حرب مع الكل"، ولكي يحافظ الأفراد على حقوقهم، ومنعاً لبغي بعضهم على بعض، تخلوا عن شطر كبير من سيادتهم وحريتهم، وأوكلوا أمرها إلى فرد واحد، فنصّبوه ملكاً عليهم ، وخوّلوه كافة الصلاحيات المطلقة، لكي يسنّ القوانين ويطبقها، ولا حق لهم بعد ذلك إن ينقضوا هذا العقد، لأن هذا أولاً غير ممكن، فلابد أن يكون هذا النقض بالإجماع كما كان الاتفاق بالإجماع، وثانياً هذا يغضّ من سلطة الدولة التي من دونها لا يمكن أن تقوم أي سلطة بمهامها الرئيسية – فلا مسؤولية من دون صلاحيات...!

ورغم موافقة "جون لوك" (وهو المفكر الأكثر تأثيراً في صياغة النظام السياسي الديمقراطي في انجلترا وأمريكا) لهوبز في استقلالية الحقوق الطبيعية والتعاقد الاجتماعي ما بين الحاكم والمحكوم إلا أنه رأى أن من التهافت أن يتنازل الأفراد عن حقوقهم إلى فرد معين (هو الحاكم) لكي تنتهك حقوقهم هذه على يد هذا الفرد، فإن سقط شرط التعاقد الأساسي (حفظ الحقوق) لابد أن تبطل الالتزامات التعاقدية المترتبة عليها... فلم يكن الدافع وراء تأسيس الحكومة في مجتمع الإنسان الأول هو أنه كان إنساناً شريراً بطبعه، ولكنه كان في حاجة إلى تنظيم شؤون حريته في ظل القيود التي تفرضها الحياة الاجتماعية، وهذه الحرية تتمثلت في ثلاثة حقوق أولية هي: الحرية في" الحياة" والفعل والمِلْكية، وحفظ هذه الحرية هو ما خلق الحاجة إلى قيام الحكومة. هنا لوك في الواقع لم يفهم الحرية إلا في اطار الابقاء على الحياة، لذا كان يرى بأنه لو تعارضت حرية الإنسان مع الابقاء على حياته عليه ان يختار حياته لا حريته، لدى هيجل هذه ليست إلا عبودية، لأن الحر هو من هو مستعد ان يبذل حياته دون حريته، مع ذلك يعود فضل تأسيس مفهوم "الحرية" في الليبرالية الحديثة كما في امريكا مثلا إلى لوك لا هيجل!!!

الإنسان الأول يُعتبر قوام فلسفة "جان جاك روسو"، لا في السياسة وحسب -كما هو الحال لدى غيره من الفلاسفة - ولكن أيضاً في التربية والأخلاق والدين، ونحن بغنى عن ذكر الدور الريادي الذي لعبته فلسفته في قيام الثورة الفرنسية، حتى إن كتاباته أضحت "مقدسة" لدى الثوار في فرنسا في القرن الثامن عشر، لما حملت في طياتها من عاطفة مشبوبة، تتوافق مع العنفوان الثوري...!

لا نجد الإنسان الأول في صورته المثلى في كتاب روسو عن "العقد الاجتماعي" كما هو متوقع، ولكن نجدها بالأحرى في كتاباته الأخرى مثل كتاب "إميل" و"رسالة في اللامساواة"، بل لقد رأى البعض بأن الأفكار التي طرحها روسو في "العقد الاجتماعي" تتعارض مع فكرته الأساسية عن الإنسان الأول الذي صرح به مبكراً في رسالته المشهور "رسالة في اللامساواة "، لقد صف لنا روسو الإنسان الأول على أنه إنسان سعيد لم تسلبه المدنية بعد سعادته، يحيا وفقاً لقوانين الطبيعة ببساطة وببراءة، فلم يكن يعرف الشرور، ولا الخداع، ولا الخبث، ويعتقد روسو بأن المجتمع وقع ضحية خداع قام به بعض أعضائه الأشرار، والعقد الاجتماعي هو ثمرة هذه الخداع، فهو حيلة حبكّها هؤلاء المخادعون لكي يستغلوا المجتمع باسم السلطة، وبحجة المحافظة على حقوق أفراده، فالقوانين التي تشكلت في ظل الدولة المدنية هي خرق لقوانين "الدولة الطبيعية"، لذا المطلوب هو مراجعة بنود هذا "العقد الاجتماعي" لكي نجعله متسقاً مع حالة الطهارة والبراءة الأولى، فالحق الطبيعي هو حق مكفول للإنسان مع الولادة، وهذا ما عبّر عنه روسو في عبارته المشهورة التي وردتْ في مقدمة كتابه "العقد الاجتماعي": "يولد الإنسان حراً، ولكنه مكبل بالسلاسل في كل مكان"...

مصلحة كل فرد في المجتمع تتكامل في هدف واحد هو مصلحة المجموعة، وهذا ما دعاه روسو بـ"الإرادة العامة" التي تعبر عن حرية كل فرد من هذا المنظور، لذا يرى روسو في أن إخضاع الفرد لهذه الإرادة هو تحقيق لحريته - حتى لو لم يدرك هذا... ودور الحكومة هو تمثّل هذه الإرادة العامة، وهذا ما دعى البعض إلى انتقاد أطروحة روسو في الشأن السياسي، لأن مقولته هذا تقضي إلى الاستبداد، فيرى برنارد رسل بأن الدكتاتورية الروسية والنازية، لا سيَّما الأخيرة، هي نتيجة لتعاليم روسو، ولو في جزء منها، وقد يعزز هذا الرأي هو أن "الإرادة العامة تبدو على أنها ليست مجموع الإرادات الفردية – كما يقول رونالد سترومبرج - بل إنها المثال الذي يحدد لهم ما الذي ينبغي أن يريدوه إذا ما أرادوا الاختيار الصحيح" (تاريخ الفكر الأوربي – ص: 210)

رغم ذلك، نرى هنا طرحاً جديداً للإنسان الأول، هو إنسان خيّر وصادق بالفطرة، يعرف الحق بسجيته المنسجمة مع قوانين الطبيعة، تماماً كما هي أخلاق الرواقين، ومنها يستمد حقوقه وواجباته، ولا ينبغي للحكومة أن تكون إلا هذه "الإرادة العامة"، لذا هناك حاجة إلى إسقاط هذه العقد الاجتماعي "المغشوش"، وعقد ميثاق آخر... فقد ظلّت البشرية في رحلتها من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، والأمر المطلوب هو العودة للبدء إلى "الإنسان الأول"، فالإنسان الأول لم يعد حقل تأمل وحسب، بل غاية لابد أن تقصدها البشرية!

ونرى في هذه الفكرة الطوباوية بوادر ظهور النظام الفوضوي (Anarchism) الذي نظر له "بيير جوسف برودان" (Pierre-Joseph Proudhon) مؤلف كتاب "المِلْكية سرقة " الذي أصبح عنوانه مقولة شائعة يرددها اليساريون... ولكن الإنسان الأول - كما كان في الطرح الليبرالي – أخذ في الانزواء عن الأضواء في منتصف القرن التاسع عشر، فقد جاء الآن دور التيار الفكري اليساري لتقديم مفهومه الخاص عنه وفقاً لرؤاه الأدلوجية. الإنسان الأول في الطرح الشيوعي هو إنسان حرّ، ولكن ليس في علاقته مع الآخرين وفي الامتلاك، بل إنه حر من "المِلْكية" ذاتها، هو إنسان لا يعرف الاستئثار أو الأنانية، بل يعيش في شيوعية مطلقة...!

يحمل الإنسان الأول لدى كارل ماركس نفس صفات "الإنسان الأول" لدى "برودان" الفوضوي، الذي ارتبط هو وإياه بصداقة حميمة لم يطل أمدها، إذ سرعان ما اختلفا حول نطاق حرية هذا الإنسان فيما يتعلق بالدولة المركزية، والأهم حق هذا الإنسان في الثورة "الراديكالية" ضد المؤسسات و"البنى الفوقية" البرجوازية...!

على العموم ما يعنينا هو أن هذا الإنسان الأول ليس فرداً بل هو المجتمع، هو الصورة الكلية للمجتمع، وبالتالي، لا يمتلك حقوقاً من حيث كونه فرداً مستقلاً، ولكن من حيث كونه عضواً في مجموعة... فالإنسان الفرداني وفقاً للرؤية الشيوعية هو إنسان أناني، يعبر عن هذه الأنانية بالملكية الخاصة، وكما يقول روسو في رسالته عن اللامساواة: "عندما طوق الإنسان الأول قطعة من الأرض، ثم قال: هذه لي، ووجد اناسا سذجاً فصدقوه، هذا الإنسان هو من أسس واقع المجتمع المدني".

كما أن "تاريخ" فوكوياما هو تاريخ هجين يمزج ما بين التفسير الماركسي والتفسير الليبرالي، كذا هو إنسان روسو... فإنسانه – كما نلحظ - يجمع ما بين الإنسان الليبرالي والإنسان الشيوعي، ومن الطريف أن إنسان روسو هو الذي ألهم الجحافل الشعبية التي دكّت جدران سجن الباستيل في الثورة الفرنسية في عام 1789يتقاطع مع إنسان ماركس-ستالين الذي قام ببناء جدار برلين لكي يفصل ما بين الإنسانين.!

ولكن غياب الحدود الفاصلة بين المفهومين - رغم الجدران التي فصلت إنسان المعسكر الشرقي عن الغربي– ليس غريباً كل الغرابة، فالحقيقة نسبية، وفي نظري تقبل الفكر الليبرالي لهذه "الحقيقة" ساهم في صورة كبيرة في انتصاره على الشيوعية، لأن الليبرالية آمنت بها، وأدركت بعد تجارب مختلفة بأن من المستحيل أن تستقر "الحقيقة" في فكر واحد يمكن قسر الناس عليها، لذا أدخلت التعدد والاختلاف في صلب منظومتها السياسية والاجتماعية، ورفضت الطريق الواحد - السبيل الحتمي، ولو ضمناً، وهو ما لم تفعله الماركسية التي ظلت تؤمن بأنها "نهاية التاريخ"، وبأن كل ما عداها خداعاً برجوازياً، ومن هنا ندرك فداحة دعوة فوكوياما في نهاية التاريخ، فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، طاب لفوكوياما متبختراً بهذا الانتصار لليبرالية الغربية أن "يُمَرْكس" الليبرالية، فقد تفضي هذه الرؤية المؤدلِجة لليبرالية إلى ذات المآل الذي آلت إليه الشيوعية!!!

لكن هل فعلاً وجد هذا الإنسان الأول على أرض الواقع؟

في واقع الأمر لم يكترث فلاسفة عصر التنوير في الإجابة على هذا التساؤل، فلا يهم أن وجد "الإنسان الأول" أو لا، إذ أن الغاية من الحديث عنه هي غاية تنظيرية بحتة، فالإنسان الأول هو إنسان تصوري، وليس واقعياً، هو بحث مفاهيمي يقوم على التأمل الفكري، وليس بحثاً انثروبولجياً يسعى إلى الكشف عن ثقافات وأحوال الإنسان الفعلية كما هو حاصل اليوم، يقول ديرك ماترفرز (Derek Matravers) في توطئة كتاب "العقد الاجتماعي" لروسو (في النسخة الإنجليزية): "إن حالة الطبيعة عبارة عن العالم في غياب المجتمع المدني، وقد نتخيلها حدسياً كصورة لعالم يقطنه مجتمعات الصيد الأولى المنعزلة عن بعضها الآخر. ولم يزعم روسو بأنه يقدم لنا حقائق تاريخية، فلا يهم إن كان وصف حالة الطبيعة يعكس الحقيقة في تفاصيلها ، إذ أنها تجربة فكرية في واقع الأمر، فإن قمنا بتخيل العالم من دون مجتمع مدني، سيكون في استطاعتنا أن نرى أوجه التشابه والاختلاف فيما بينه وبين العالم المنتظم في أنساق مدنية". وإن صح هذا في فكر روسو، وهو الأشد راديكالية في تصور الإنسان الأول، فمن باب أولى أن يصح في الآخرين.


كما أن الاكتشافات العلمية التي قام بها غالليلو وكوبر ونيوتن وغيرهم غيّرت كثيراً من الرؤى التي كان ينظر بها إلى الكون، وأزالت اللثام عن قوانين جديدة للكون، وأسقطت كثيراً من الأوهام اللاهوتية التي كانت تزاحم العلوم الطبيعية في تفسير العالم بصورة أو بأخرى، فبرزتْ حاجة إلى تفسير أكثر عقلانية للأنساق الإنسانية في منأى عن لاهوتية الكنيسة، وكان الإنسان الأول حقلاً خصباً لهذا التفكير العقلاني، فقد كان الدافع وراء كتابات هوبز السياسية - على سبيل المثال - هو وضع أسس عقلانية تحكم الحياة السياسية، تماماً كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فقد كان مهتماً بالحقل الطبيعي العلمي، فتناولت أول كتاباته هذا الحقل، رغم أنها لم تقدم شيئاً جديداً في هذا المجال، إلا أن كتاباته السياسية التي تأثرت بالنسق الطبيعي العلمي ساهمت في تغيير الفكر السياسي – ولعلها هي الأكثر تأثيراً في هذا الصدد.

ختاماً رغم أن الإنسان الأول هو إنسان وهمي إلا أنه هو الذي ساهم في خلق (بل في شَرْعَنة) كثير من المفاهيم الحديثة اليوم التي لعبت دوراً مهماً في تشكيل الدولة والمجتمع الليبرالي... وقد يدفعنا هذا إلى القول بأن "الأوهام" قد تصنع الإنسان أكثر من "الحقائق"، ولِمَ لا، إن كان الفارق بينهما قد يكون أيضاً من صنع الإنسان ذاته، ولعلّ الرؤى التي نظرت إلى "الإنسان الأول" على أنه هو كذلك "الإنسان الأخير" هي أكبر دليل على ذلك !!!

المراجع:
فرنسيس فوكوياما – نهاية التاريخ والإنسان الأخير
رونالد سترومبرج - تاريخ الفكر الأوربي

Jean-Jacques Rousseau – The Social Contract