الجمعة، 12 سبتمبر 2014

اختلاف أو خلاف...!؟


نقل عن النبي المصطفى أنه قال: "اختلاف أمتي رحمه".

وهو أثر نبوي كريم نبيل المعنى!  إذ ينظر غالباً إلى الاختلاف على أنه أمر سلبي، ولكنه في واقع الأمر هو أمر ايجابي، وهو ما يشير إليه الأثر النبوي.

من البديهي أنه من دون وجود اختلاف بين البشر لا يمكن أن نحصل على تنوع واتساع في الرؤى والنظر، وهو الأمر الذي من شأنه أن "يثري" من مفهوم "الحقيقة" من حيث أنها موضوع للبحث والنظر، ومن ثم لا يمكن أن يُنظر لها من جانب واحد وحسب، ولا يمكن أيضاً أن تكون "كلاً واحداً" و"يقيناً مطلقاً".

ونجد مؤدى هذا المعنى في القصة المعروف عن" الفيل والرجال الخمسة العميان"، عندما طلب من كل واحد منهم وصف الفيل، فوصف كل واحد منهم الجارحة التي مسها، الأول قال: الفيل مستدير لأنه كان يمسك برجل الفيل، وعارضه الأخر وقال بل هو ناعم لأنه كان يمسك بأنيابه، بينما الثالث الذي كان يمسك بذيله، فقد اختلاف عنهما، وقال بل هو مرن ونحيل، أما الرابع وقد كان يمسك بأذنه قال أنه مفلطح، غير أن الخامس خالفهم جميعاً حيث وضع يديه في فهمه وقال بل هو رطب.!

ولكن تجاوزاً لهذه القصة فالفيل ليس حتى كل ذلك، فالقضية أكثر تعقيداً من ذلك، فإنه من حيث أنه تصور (جنس كلي) لا يمكن أن يحاط باللمس، فالفيل من حيث أنه مفهوم هو مثل سائر المفاهيم الأخرى لا يمكن أن يقبل التقنين اليقيني والقطعي (على الأقل من الناحية الفلسفية والجدل الذي دار بين الأسمائيين وخصومهم أكبر دليلاً على ذلك)، بل هو مدار للنظر وللتأمل الذي لابد أن يقودنا إلى "الاختلاف"!

وهذا ما يفضي بنا إلى موقف فلسفي آخر (أصبح الآن متيناً في فلسفات الاختلاف اليوم)، فـ"الحقيقة" أصلها اختلاف لا ائتلاف، ليس لأن "المعنى" الذي هو مناط الحقيقة نسبي وحسب (لاختلاف النظر إليه وهو ما يُسمى فلسفياً بـ"المنظورية")، ولكنها لأن المعنى لا يتضح إلا بمحدداته التي تميّزه عن الآخر، فماهية الشيء لا يتشكل إلا من حيث حدوده التي تفصله عن "الآخر"، ومن هنا نخلص إلى نتيجة هي أن "الآخر" هو الذي يشكل "معنى" الشيء المخالف له، وليس الشيء ذاته في واقع الأمر – على الأقل إلى حد كبير! فالأسد -  مثلاً - هو أسد لأنه ليس بنمر، وليس بفهد، وقسْ على ذلك في سائر الموضوعات الأخرى!

إذن الأثر النبوي هنا فضلا على أن يفيض رحمة ونبلا (من الناحية الأخلاقية المحضة)، فإنه - في الطرف الآخر - يعبر عن "واقعة" معرفية يصدح بها التاريخ، فقد عاش البشر دوماً مختلفين ومتنوعين في صور شتى، وهو ما يتفق مع الآية الكريمة (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، فالاختلاف هنا سنة كونيه من الخطل نكرانها. ومن جهة أخرى، هو مهماز للتعارف والتآلف (من حيث أنه اختلاف) لا للاقتتال والاصطدام! وهذه المسألة جداً مهمة، ولكن للأسف لم تلقَ بعد الاهتمام المطلوب في فضاء الفكر الإسلامي. والآية الكريمة - وهو ما يجدر الإشارة إليه - لم تقصر شأن سنة الاختلاف على الشأن الأثني والعرقي (كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة)، ولكنها قدمت ذلك عن دونها من محددات الاختلاف الأخرى، لأن هذا الشأن هو أمر مركزي في الثقافة العربية التي كانت قوامها القبيلة والعرق، ومن ثم فإنها تقرب مفهوم "الاختلاف" الايجابي إلى الأفهام، وذلك في ظل السياق الثقافي الذي أنزل فيه القرآن!

لذلك، من الخطأ النظر إلى الاختلاف الثقافي على أنه سبب للصراع بين الأمم (كما في أطروحة صموئيل هنتغتون الشهيرة)، فاختلاف الثقافات ليس وليد العصر الحديث (حتى مع تشكل ما يسمى بالنظام الجديد الأوحدي القطب الذي بزغ مع سقوط المعسكر الشرقي)، ولكنه ديدن العالم على مر التاريخ، وعندما يصبح اختلاف الثقافات سبباً في الصراع، فإنه لا يصبح كذلك من حيث كونه عنصراً ثقافياً، ولكن من حيث كونه عنصراً تم توظيفه أدلوجياً، بمعنى آخر من حيث كونه مطية لطلب السلطة التي تقولب مسألة الاختلاف الثقافي في معادلة حدية (أما أنا... أو هو)، ومن هذا المنظور لا نجد أننا أمام نظام عالمي جديد، بل هو ذات النظام الذي يتمركز حول السلطة، حتى لو تغيرت قواعد اللعبة بين نظام ونظام آخر، يبقى هذا التغير هو مجرد تغير شكلي وحسب!

تاريخ العرب المسلمين لم يعرف احتراماً للاختلاف، طبعاً لا نريد هنا أن ننكر بعض من مظاهر "التسامح" التي ظهرت في الحضارة الإسلامية (كما حدث في الأندلس في العصر الوسيط) ولكن هذا الاختلاف لم يكن مؤطرا برؤية فلسفية واضحة المعالم، بمعنى أنه لم ينطلق من وعي معرفي أو أخلاقي متين، وهو ما أصبح الآن دارجاً في الأدبيات الفكرية الحداثية التي تؤمن بحق الاختلاف والتنوع، لأنه حق من حقوق البشرية، (وهي أدبيات دوماً ما يتم قصرها على التيار الليبرالي، رغم أنها ليس كذلك في الواقع، فبعض التيارات اليسارية تؤمن بالتنوع والاختلاف أكثر من الليبرالية)!

ونستطيع أن نلحظ جانباً من جوانب النظر إلى الاختلاف في التراث القديم في أدبيات تأريخ الفرق، فعبد القادر البغدادي (ت 418 )، عميد مؤرخي الفرق الذي اسس لمنهج كتابة تاريخ الفرق لمن جاؤوا بعده، تعنّى كي يصنف ما شَجَرَ بين المسلمين من اختلاف إلى ثلاث وسبعين فرقة، وذلك على هدى فهم حرفي لحديث "الفرقة الناجية" المشهور، وشن هجوماً شرساً على معظم الفرق المخالفة، وذلك استناداً على رأي المذهب الذي كان ينتمي له (كان أشعري العقيدة وشافعي الفقه)، وقد سن سنة في النظر إلى المذاهب الإسلامية المختلفة على أنها فرق متنازعة، كلها في النار إلا واحدة، ولم يعن حتى في تأويل حديث الفرقة الناجية كي يفهمه فهماً صحيحاً في إطار السياق العام للدين الإسلامي في شأن الاختلاف.

وقد عزز ذلك ما يمكن أن نسميه "العقلية الفرقية" التي تهتم بالتأكيد على الاختلاف (دون التشابه) من دون مراعاة لظاهرة اختلاف المعنى، و تقدم هذا الاختلاف على أنه شرّ محضّ، ويمكن أن نلمس ذلك من دلالة لفظة "فرقة" التي اشتقت من مصدرها (فَرَقَ) التي تعني باعد وشتت، وكأن الاختلاف هنا لا يكون إلا بالعداوة والخصام التي تفرض التباعد والانقسام.!

لذا لا غرابة أن يفسر الحديث النبوي الكريم على أنه اختلاف (الرحمة) هو اختلاف في الفروع (حتى أضحى عند البعض يفسر على أنه في أضيق حدود هذا الاختلاف) دون الأصول. فقد ضاق صدر هذا الخطاب بالتسامح في الشأن العقدي الذي أصبح محط النزاع في داخل مؤسسة السلطة ذاتها، محنة خلق القرآن التي قادها أهل الكلام على "أهل الجماعة" أو البيان القادري الذي أنقلب في وقت لاحق على أهل الكلام دليل على هذا التداخل الذي نتج عنه آثاراً سلبية على الأمة الإسلامية.

ولكن الاختلاف الذي وقع بين القدامى يفوق اختلاف الأصول والفروع بل هو اختلاف حول رهانات "المعنى الديني" الذي يتأتى من اختلاف القراءة والتأويل في السياق التاريخي، والنظر إليه على أنه مجرد اختلاف عقدي وحسب لا يجعلنا نفهم أس المشكلة، هذا إن اعتبرنا أن الاختلاف حول "المعنى" مشكلة في حد ذاتها.

فأساس الاختلاف معرفي في أصله، (هذا إن استطعنا أن نستأصل الرهان السياسي والاجتماعي والتاريخي الذي يساهم في ظاهرة الاختلاف ذاتها)،  وإدراكنا لهذا الأمر يجعلنا أكثر تسامحاً حيال الاختلاف وحيال الآخر، إذ هو أمر لابد منه بحكم أننا بشر (وهذا ما يكشف لنا عن جانب الأثر الانثربولوجي في الاختلاف) نخضع إلى معارفنا النسبية.

وتاريخ الأديان أكبر دليلاً على ذلك، فلم ينشأ ديناً قط إلا واختلفت التفاسير حوله، وتعدد المعاني، فالمسيحية - مثلاً - تعددت اتجاهاتها منذ القرن الأول وشبّ جدل حول ماهية المسيح بين أتباع آريوس وأتباع الكسندروس حول طبيعة يسوع: أهي لاهوتية أم ناسوتية؟ وتم انعقاد مجمع نيقيا في القرن الثالث بعد أن تداخلت المسيحية مع المؤسسة السياسية تحت ظل حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول كي يفض هذا الاختلاف في طبيعة المسيح، وجاءت الغلبة لإتباع الكسندورس من حيث القوة السياسية لا قوة الرأي للاهوتي، ولكن آريوس أبى أن يوقع على البيان الذي اراد أن يضيق من طبيعة رحابة المعتقد التي يرتكز على تعدد المعنى لا وحدانيته،  لذا قد وجد آريوس بعد ذلك مقتولاً ومبقور البطن في الخلاء! 

ومنذ ذاك، قد أنتظر الغرب المسيحي طويلاً وذلك بعد حروب طائفية طاحنة قبل أن يصل إلى قناعة أن الاختلاف لا ينبغي أن يكون مناط الخلاف....


من المهم ان نعرف  ان الاختلاف لا يوازي الخلاف، كما أنه ليس رديفاً للفرقة، بل هو بالأحرى تأكيد على "وحدة الهوية" إذ هو ما يحدد هوية المُختلَف بشأنه (لا المتشابه به!)، من حيث أن "الفرد" تتميز هويته بالخصائص التي تفرقه عن غيره، ومن هنا تأتي أهمية التنوع والتباين.


الأمم التي لم تصل إلى هذه القناعة ستعيش مبعثرة ومتنازعة دوماً، ومهما بلغ قوة حزب على حزب إلا أن الاختلاف قائم قائم، وقد تختلف الأحوال عندئذٍ، ومن كان ضعيفاً قد يقوى، وهكذا نعيش في دوامة الصراع الذي يقوم على حق القوة لا قوة الحق!

الجمعة، 13 يونيو 2014

الحقيقة بين العلم والفن


العلم أقرب إلى الأسطورة أكثر مما يحلو لفلسفة العلم أن تعترف به.

بول فيرابند، فيلسوف فرنسي 







   مقطوعة شعرية غنائية لا حقيقة لها تغنى بها رجل "بدائي" في كوخه المصنوع من القش هي أكثر "حقيقة" من حقيقة "الحقيقة" ذاتها، بحسب مفهوم الحقيقة كما يقدمها العلم لنا!!!...

قد يبدو هذا القول مربكا إلى حد كبير، لأننا اعتدنا على تعريفات معينة عن العلم والفن، والأهم من ذلك عن الحقيقة ذاتها، كما شاعت في حقل الفلسفة قديما، إذ قدمت على أنها "مطابقة الفكرة للشيء في الخارج" أي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان! وهو تعريف لقى نقدا كبيرا من هيدجر، لكن بغض النظر عن ذلك، فإن العلم ذاته لم يقدر أن يثبت هذه الحقيقة -كما يعرّفها هو - اثباتا مطلقا.

الحقيقة نسبية!

كتب فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر كتابه "الأورجانون الجديد"، معارضا كتاب أرسطو في المنطق الصوري الذي يحمل ذات الاسم "الأورجانون"، وهو يؤسس للمنهج التجريبي الذي أضحى أساس شروط تأسيس الحقيقة لدى العلم، وذلك من خلال رصد القوانين الطبيعية الثابتة من خلال المنهج الاستقرائي المعروف، وقد استبعد بيكون منطق أرسطو الصوري الذي يقوم على استنباطات عقلية، لكن حتى منهج بيكون لم يكن آلة -كما تصور- قادرة أن تفضي بنا إلى الحقيقة، فلقد لقى الأورجانون الجديد أيضا نقدا شديدا لاحقا، لأن الحقائق التي يزيل اللثام عنها ليست ثابتة، كما كان يعتقد بل هي متغيرة، فإن استقر المنهج التجريبي على "حقيقة" ما تتبعا لمسار المنهج الاستقرائي، تأتي حقيقة أخرى لاحقا فتحل محلها بذات المنهج! كما رصد ذلك بذكاء توماس كون في كتابه الشهير "ثورة البنيات العلمية". والمثال النموذجي على ذلك، نظام بطليموس الفلكي الذي ظل يقدم نفسه منذ القرن الأول على أنه "الحقيقة" التي تمثل نظام الكون والعالم، ومرت خمسة قرون حتى قدوم كوبرنيكس ليثبت بطلان نظام بطليموس الكوني، ثم يصوغ لنا نظاما آخر تحتل فيه الشمس المركز بدلا من الأرض التي ظن بطليموس أنها مركز الكون.

فيزياء نيوتن –كمثال آخر- ابطلتها الفيزياء النسبية لآنشتاين من حيث أنها تمثل "الحقيقة"، لكنها لا تزال فاعلةً من حيث أنها "عملية" وحسب، وليس كل ما هو عملي ونفعي هو حقيقي، فمملكة الحقيقة أكبر من مملكة العملي والنفعي، فالنيوتنية كما يعترف بذلك الفيزياء الحديثة ليست صائبة بالمطلق، كما أثبت ذلك آنشتاين لكن مع ذلك لا تزال هي النظرية التي تهيمن على العلم، لأنها "عملية"!

في القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات من داخل التيار الوضعي "العلومي" تَستخّف من شأن الفن والأدب، بحكم أنهما من مخلفات عصور غابرة حيث كانت الخرافة هي الطاغية دون "الحقيقة العلمية"، وتعاظمت هذه الدعوة لدى حلقة فيينا الوضعية المنطقية في مطلع القرن العشرين، فقالت بأن القضية (الجملة مع بعض التجاوز) الميتافيزيقية (وهي فارغة -في نظرهم- أي أنها لا تدل على شيء يمكن أن نحكم بشأنه أما حقا أو باطلا!) ليست إلا صورة أخرى من صور الشعر والأدب، وليست من القضايا التي تخبرنا عن الحقيقة (بالمعنى العلمي لها)، ويتضمن ذلك احتقارا للشعر والأدب، ناهيك عن الميتافيزيقا! فحظ الشعر من الحقيقة لا يزيد عن حظ الميتافيزيقا منها كذلك! في هذا الرأي هناك مصادرة لمعنى "الحقيقة" ناهيك على اتخاذه احكاما متسرعة ضد ما يخالفها!

لكن ملحمة الالياذة -مثلا- لهوميروس التي تعود في إحدى الأقوال الأكثر متانة إلى القرن العاشر قبل الميلاد لا تزال تعرب لنا عن ذات الحقائق عن البطولة والحب والخيانة والمكر والخوف وغير ذلك من أحوال البشرية التي حاولت النزعة الوضعية أن تقولبها في قوالب ثابتة كما الشأن في معادلات العلم الرياضية، كي تكون علما بذات المعنى للعلم في العلوم الطبيعية Sciences . فهي من ثم تخبرنا عن الحقيقة أكثر من الحقيقة كما يفهمها هؤلاء بالمعنى الضيق للحقيقة، فليس هناك أكبر "حقيقة" من حقيقة الإنسان، وهي مدار ملحمة هوميرس التي أعرب عنها في قالب أسطوري تتدخل فيه الآلهة كما تتدخل فيه قوانين الطبيعة!!!

ولتمثال أبي الهول "الخرافي" -كمثال آخر- الذي هو عبارة عن رأس انسان بجسد حيوان دلالةٌ على رجوع جذور الإنسان والحيون إلى "أصل واحد" تلك العلاقة التي رمز عنها بالطوطمية ظل يَعْرِب لنا عن الحقيقة أكثر مما أعرب عن ذلك نظرية أبقراط (ابي الطب) عن أخلاط الجسد العضوية وعلاقتها بمزاج الشخصية، رغم أن الفارق بينهما قرون تاريخيا!

إن  باعث رغبة النزعة الوضعية في أن تحيل العلوم الإنسانية إلى علوم وضعية هو أن نستنتج منها قوانين ثابتة يمكن من خلالها التنبؤ بالسلوك الإنساني كما أمكن التنبؤ بقوانين الطبيعة وبذلك تجعل من العلوم الإنسانية موازيةً لعلوم الطبيعية، كي يمكن لها أن تتقدم في مقاربتها للحقيقة، كما فعلت ذلك العلوم الطبيعية، إذ كان التساؤل  المطروح في البدء لماذا استطاعت العلوم الطبيعية أن تتقدم بينما اخفقت بذلك الميتافيزيقا... وهو سؤال مغلوط من الأساس لأنه لم يتساءل عن معنى "التقدم" ومعنى "الحقيقة" و"المعرفة"!

لكن - ويا لسخرية القدر - الفنون الإنسانية وآدابها ثبتت كحقائق أكثر من حقائق هذه العلوم الطبيعية. فليس المهم هو رصد القوانين الثابتة، كما يريد ذلك المنهج الاستقرائي (هذا إن كان ثمة قوانين ثابتة حقا!)، ولكن وجود "حقائق" مدار القياس فيها هو الوجود الأنطولوجي، وهو وجود ذو طبيعة صيرورية، وليس مدارها التقنين المعياري، و بهذا المعنى هي ليست معنية بالثابت والمستقر، ولا بالعملي والنفعي، ولا بالمطابقة، بل بالحقيقة من حيث أنها شيء آخر بخلاف ما تُقدم لنا من قبل اصحاب المنهج العلمي، بل الحقيقة من حيث أنها صيرورة وتغير واختلاف... والأهم من كل ذلك إنسانية!

من هنا حقائق الفنون أكثر "حقيقية" من حقائق العلوم! ولعل الفن لذلك هو الذي يستحق صفة "الحقيقي" أكثر من المعارف والعلوم الطبيعية!


الخميس، 8 مايو 2014

الهوية هي الاختلاف!

الهوية  هي الاختلاف!

لا ينعش سؤال (ما هو؟) إلا الحوار "المستعصي" لأنه الذي يوجد في صورة السؤال ذاته تناقضا.

جيل دولوز


"التناقض ليس هو الضدية من حيث المفهوم، بل هو الاختلاف، لذا الايمان بالاختلاف يلغي التناقض، هنا ما يطابق الموجب حقا هو السالب..!"


الاختلاف يضاد التطابق، طبعا كون شيئا ما فريدا فإن هذا يعني أنه مختلف عن غيره وليس هو ذاته وحسب، ومبدأ الهوية هو عين نظرية التطابق (الماهوي)، فصورته التي هي (أ هو أ) هي التي ينبع منها كافة المبادئ الأخرى التي تسمى بديهيات في المنطق كما مبدأ عدم التناقض، هنا الاختلاف مفهوما لا يصطدم مع مبدأ الهوية بل حتى مع مبدأ عدم التناقض، وسند فلاسفة الاختلاف هو أن الهوية لا تعرّف بذاتها كما في مبدأ الهوية بل في اختلافها عن غيرها لا في كونها هي ذاتها، أي أن زيدا لا يكون زيدا لأنه زيد (مبدأ الهوية) بل لأنه ليس بعمر (مبدأ الاختلاف والتناقض كذلك!).

ما يعال عليه هنا هو نظرية دو سوسير في "الصوتيم" وهي الوحدة الأصغر التي تصنع "المدلول"، فالفارق بين لفظة "قلم" و"ألم" هو الفارق الصوتي ما بين "ق" و"أ"، من ثم ما يجعل لفظة "قلم" هي قلم هو أنها ليست بـ"ألم" أو أي لفظة أخرى...

إن ما يجعلنا ندرك الفارق ما بين "قلم" و"ألم" ليس القلم والألم في الخارج الموضوعي (هذا إن افترضنا بأن كل الألفاظ لها موضوع خارجي مادي، إذ هناك ألفاظ تدل على معاني وحسب) بل هو الفارق الصوتي بينهما (أي ما يدعى بـ"دال")، لأن اللغة عشوائية أي لا رابط بينها وبين ما تشير إليه من حيث الطبيعة، بل هي اصطلاحية بوصف الجرجاني هي "تواطؤ اجتماعي"، فقد نتفق أن لفظة "قلم" هي ما تشير إلى الألم في الخارج مثلا أو العكس، ولا يضير ذلك من النظام اللغوي شيئا!

هنا اللغة مجرد لعبة -كما يرى فتجنشتاين- إشارات وإحالات...! هي في الواقع لا تحيل إلى شيء إلا ما تعني - أي المعنى الذي نتفق عليه اصطلاحيا، أي أنها بلا إحالة في الواقع الخارجي، من هنا المعنى في مبدأ الهوية (أ هو أ) لا تعني شيئا في الحقيقة، مبدأ التطابق هو مجرد انكفاء المعنى على معناه، وهذا نوع آخر من الانطوائية Solipsism - أي أن الذات ترى الموضوع من حيث أنها ذات لا من حيث أنه موضوع، فمن ثم فإن الموضوع هو من خلقها هي !

من هنا لابد لنا من منظور آخر يعرّف الهوية غير ذاتها، رأت فلسفة الأختلاف أن الهوية ليست هي "الهوية" ذاتها، بل ما تختلف عن الآخر، حدها كما يقول المناطقة ليس ذاتها بل هو الآخر، هنا هي ذاتها والآخر كذلك، ويتجاوز هذا مبدأ عدم التناقض في ظل هذه الرؤية لفلسفة الاختلاف!

وعلى ضوء ذلك تكون "الذات" هي "الآخر"، لأنها ليست "الآخر"، بل هي ما تختلف عنه من حيث كونها هي "الآخر"، لأنه لا يمكن فصل فرادة الذات بعيدا عن تميزها عن الآخر.

وإن سقط مبدأ الهوية الذي يعول على أن الذات هي ذاتها (أ = أ)، فأن كل المبادئ الأولية الأخرى (أي مبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع) تسقط كذلك، فكثير من المناطقة يرون أن مبدأ الهوية هو الأصل، فإن سقط أصل الشجرة، سقطت الفروع.