السؤال
الفلسفي في أصله هو سؤال عن "المعنى"
- سؤال عن المعنى في شتى تجلياته،
المعنى في الوجود والمعرفة، والمعنى في الجمال، والمعنى في الخير والشر، وغير ذلك من حقول الفلسفة... وكل هذه المعاني تقدم نفسها في إطار تساؤل
فلسفي: ما حقيقة الوجود الكلي والجزئي؟ ما هو الخير والشر؟ وما العدل؟ كيف يمكن أن
نحدد أطر الجمال؟ ما طبيعة المعرفة؟ وغيرها من التساؤلات التي يعاد طرحها في كل
عصر، ولكن غالباً ما تكون الفلسفة هي الحاضن لها.
في
الواقع أن الفلسفة لا تتشكل إلا في أفق "المعنى"... وبالتالي، يحق لنا
أن نقول بأن الفلسفة ليست سؤالاً عن "المعنى" وحسب، ولكن أيضاً هي
"المعنى" ذاته من حيث أنها هي التي تشكل "وسيلة" و"غائية"
البحث عنه... وكما يمكن أن يُنظر إلى
السعادة – كما في الحكمة الدارجة - على أنها هي السعي إلى "السعادة"
ذاتها، فإن البحث عن "المعنى" أضحى بحثاً في فلسفة المعنى... قد نفهم
على ضوء ذلك، دلالة المقولة التي تنسب إلى كانط التي تقول: "بأننا نتفلسف
لأننا نتفلسف"، إذ أنها تشير إلى حالة من "الانكفاء" – من "الانعزال" في داخل الحقل الفلسفي
ذاته، الأمر الذي من شأنه أن يحيل الفلسفة وتساؤلاتها إلى شرنقة مغلقة على ذاتها –
دائرة مغلقة تبدأ من البحث عن المعنى، وتنتهي بذات البحث، ثم تعود تارة أخرى للبحث
عن المعنى!!!
ورغم
ما قد يبدو عليه هذا السعي من عبثية "سيزيفيّة" إلا أن الإنسان ظل يصرّ
على طرح سؤال "المعنى"... وهذا يذهب بنا إلى القول بأن "معنى
الإنسان" هو "إنسان المعنى" - أي من حيث أنه مخلوق عاقل أو بالأحرى
إنسان مرغم على التعقل في ظل سقوطه في "الوجود–في-العالم"، لذلك هو سجين
"المعنى" وفي ذات الوقت هو خالق "المعنى"... فهل جوهر الإنسان
إذن هو المعنى..؟ أقصد معنى وجوده ومعنى كينونته، ومعنى غايته، ويمكننا أن نعكس السؤال،
ويظل الأمر صحيحاً أيضاً - أي أن نقول: هل وجوده في المعنى وكينونته في المعنى
وغايته في المعنى، وهنا المفارقة التي
تحمل في طياتها تراجيديا السؤال الفلسفي حول المعنى!
كانت
الأسئلة الفلسفية في القديم (على الأقل لدى اليونان) تنصب على
"المعرفة"... ماذا نعرف عن الكون وأنفسنا؟ وكيف نعرف هذا؟ وما قيمه هذه
المعارف التي نتوصل إليها؟ وهل هي يقينية أو نسبية؟...
رغم
أن كل هذه الأسئلة في الظاهر تبدو لنا بأنها تتمحور حول معنى خارج الإنسان إلا أنها
تمسّ جوهر الإنسان، من حيث أنه هو الكائن المتسائل عن "المعرفة"، لذا
تعود بنا هذه الأسئلة إلى التساؤل الأول عن “إنسان المعنى” الذي يخلق لنا “معنى
الإنسان”... يرى مارتن هيدجر بأن
الإنسان هو الموجود الذي يهتمّ بوجوده، لذا تاريخ الفلسفة هو تاريخ السؤال عن "معنى"
الوجود الإنساني، لأن " تناول السؤال عن الوجود ينصرف إلى الكشف عن الموجود
الذي يسأل عنه من جهة معناه" كما يقول الدكتور عبدالغفار مكاوي في كتابه
"نداء الحقيقة" شارحاً لفلسفة هيدجر...[1]
ولكن
السؤال عن "المعنى" هو الذي يدفعنا أن نسأل: هل يوجد "معنى"
أصلاً؟
الوجودية
تذهب إلى أنه أولاً ينبغي أن نعيد السؤال إلى مؤله، هل "يوجد"
"معنيّ" بهذا "المعنى"؟ نلحظ في البدء بأننا نتحدث عن
"وجود"، ثم (أو بالأحرى في ذات الوقت) نتحدث عن "معنيّ" – أي
كيان مهتم، وهو بلا شك الإنسان، لذا نحن نقف أمام ثنائية قد تكون خداعة، إذ أن
المعنيّ هو المعنى... فمجرد أن نكون معنيين،
يصبح هناك "معنى"... بمجرد أن "نتواجد" يتواجد المعنى، فلسنا "معنيين"
بصيغة أخرى إلا لأننا "موجودون"...!
من
هذا المنطلق، يخبرنا هيدجر بأن الوجود هو الموجود الإنساني، والعكس صحيح، لكن ليس من حيث ان جموعه هو ما يساوي هذا الوجود بل من حيث انه هو ما يشير إلى هذا الوجود لأن الإنسان دون سائر المخلوقات الأخرى هو الذي يعي وجوده، ونجح هيدجر على
هذا الأساس في تجاوز ثنائية الذات والموضوع التي شغلت الفلسفة طوال تاريخها، ولكن
ما فشل أن يفسره لنا هيدجر هو: ما الجدوى من معنى لا يفيد إلا معنى ذاته؟ فهذا
أشبه بلفظة صوتية لا معنى لها! ففلسفة هيدجر في التساؤل الفلسفي الأول (وهو السؤال
عن معنى الوجود) يستند على مبدأ الهوية "الماهوي" التي يرفضها هيدجر - كما نستنبط من رؤيته للميتافيزيقا الكلاسيكية - بحكم أن الميتافيزيقا التي
تستند على "الجوهر الماهوي" هي حجاب تخفي في ثناياها عن اللامحجوب، فالميتافيزيقا
الكلاسيكية كسؤال عن "الماهية" المتعالية تخفي عنّا الموجود الإنساني من
حيث أنه المعبّر "الوحيد" عن الوجود... أي أن الموجود هو الموجود، إذ لا
شيء يمكن أن يستند عليه لكي يفسر هذا الموجود خارج وجوده، لذا تساؤل هيدجر عن
الوجود في الواقع لا يمكن أن يفيدنا على ما يبدو، إذ لم يكن هنا "تخارج"
بالمفهوم الهيجلي (لا بالمفهوم الهيدجري الذي يعني التخارج من الماهية إلى الوجود)
– أي أن تتخارج الذات عن ذاتها لكي تتحد بمعنى مطلق في قفولها من لحظات اغترابها...
فأي تساؤل يحمل طبيعة متعالية مثل وجود "قيم عليا" هو لدى هيدجر سؤال
متهم بحجب اللامحجوب...! لذا لا غرابة أن
تسقط فلسفة هيدجر في "عدمية" أو هكذا تم قراءتها، فإن كان الموجود هو
معنى الوجود إذن لن يكون له معنى إلا الوجود ذاته، فلا "قيمة" يمكن أن
يتعلل بها الوجود لكي يبررّ وجوده غير وجوده...! "جياني فاطيمو" معبّراً
عن هذه الإشكالية لدى هيدجر في قراءته المعمّقة لنهاية الحداثة من منظور فلسفة
هيدجر ونيتشه في كتابه (نهاية الحداثة)، يقول: "الوجود لدى هيدجر يُبطل بمجرد
أن يتحول كلية إلى قيمة"[2]...
لأن معنى الوجود لديه هو معنى ذاته، وبالتالي، لابدّ أن يحافظ على مفارقته لأي
محتوى قيمي...!
هذا
ما يجعل الإنسان يحمل عبء وجوده الثقيل، فلاهوت نيتشه الجديد وهو "العَوْد
الأبدي"، الذي يتكرر بلا نهاية وبلا كلل، يصب في ذات الفكرة، يخاطبنا نيتشه
على لسان الشيطان ويقول: ""وهاته الحياة مثلما تحياها الآن، ومثلما
حييتها، سيلزمك أن تحياها مرة أخرى ومرات لا حصر لها، ولن يكون فيها شيء جديد، سوى
أن كل ألم وكل متعة، كل فكرة وكل تأوه وكل ما متناهٍ في الصغر والكبر في حياتك
لابد أن يعود إليك... إن ساعة الوجود الرملية الخالدة لا تفتأ تعكس من جديد وأنت
معها يا ذرة غبار من الغبار..." ولو
سيطرت عليك هاته الفكر فستحولك جاعلة منك مثلما أنت شخصاً آخر... والسؤال المطروح
بخصوص الكل وبخصوص كل شيء: "هل تريد هذا مرة أخرى، ومرات لا حصر لها؟" [هذا
السؤال] سيهبط بثقله على تصرفاتك كأثقل وزن"[3]...
و
يصوّر نيتشه هذا الثقل (ثقل انكفاء المعنى على المعنى حتى لا يكون ثمة معنى) مجازاً
بـ"الناقة" في كتابه هكذا تكلم زرادشت[4]...
وهو تشبيه موفق، فالناقة تهدر حياتها، وهي تقطع البيداء في لفح الرمضاء بلا هدف
يخص وجودها، وهي لا تحمل فقط ما يضع عليها من حمولة الأسفار، بل تحمل حتى سنامها –
ثقل جسدها الفاني، من دون أن تتأوه أو تئن، وتناظر هذا الصورة المجازية ثقل سؤال
المعنى الذي يحمله العقل الفلسفي، "وبكل هذه الأثقال يأخذ العقل المكابد على
عاتقه، وكما الجمل الذي يسعى حثيثاً محملاً بأثقاله عبر الصحراء، كذلك يسعى هو
حثيثاً في صحرائه"[5]...
رغم ذلك هذا الحمل الثقيل – كما يستشف من فلسفة نيتشه - هو الذي يُبقى الإنسان حياً،
هو الذي يجعل لحياته "إرادة" (وليس بالضرورة معنى)، رغم أنه يدرك بأن حياته
تماماً مثل البيداء لا حدود لها ولا هادٍ له فيها...... وإرادة القوى لدى نيتشه في
ظل القراءة التي قدمها عنه هيدجر هي
انخراط في واقع الحياة – هي نوع من الهيام العاطفي تجاه الحياة من حيث أنها حياة
وحسب من دون أن تكترث بأن تلصق بها أي "معنى"، و"فيطمو" يفسر
لنا مقولة "الإرادة قوة" على ضوء قراءة هيدجر لنيتشه بأنها تعني
"الإرادة تفسير" – أي سعي إلى تأويل الحياة في ظل غياب تأسيس المعنى
الميتافيزيقي، هذه الحالة هي ما يطلق
عليها نيتشه "المنجز العدمي"، هي المرحلة التي تحول فيها الجمل إلى أسد
ثم إلى طفل، يفسر جيل دولوز هذا التحول كما قدمه لنا نيتشه، فيقول في كتابه عن
"نيتشه": "الجمل هو الحيوان الذي يحمل عبء القيم السائدة وأثقال
التربية، والأخلاق والثقافة، يحملها في الصحراء، ويتحول هناك إلى أسد، يحطم الأسد
التماثيل، ويدوس الأثقال، يتولى نقد كل القيم السائدة، وأخير يمتلك الأسد أن يصبح
طفلاً أي لعباً وبداية جديدة، خالقاً لقيم جديدة ومبادئ تقويم جديدة"[6] ... لكن هذه المراجعة تحولت إلى فضاء آخر غير فضاء
المعنى، إذ أن الإنسان في هذه الحالة يرتحل إلى فضاء "اللامعنى" الذي
يطوّق الإنسان عندما يكتشف موت الميتافيزيقا، رغم أن هذا وفقاً لأطروحة نيتشه هو الذي
يشكل "معنى" الإنسان – فيتم إنجاز المعنى (="اللامعنى")
للإنسان في المصير العدمي... فالتناقض هنا في هذه المعادلة، لا يصبح هنا مقبولاً
وحسب، ولكن أيضاً يشكل "الحقيقة" – حقيقة أن يرى الإنسان نفسه لأول مرة
على حسب تعبير نيتشه، وهذه هي الفكرة التي ألهمتْ قراءات كثيرة في فلسفة "ما
بعد الحداثة" لتعيد النظر في مفهوم التناقض...
جان
بول سارتر، لكي يخرج من هذا المأزق بعد أن تتلمذ على يد هيدجر، قال بأن الموجود هو
وحدة القادر (أو بالأحرى الذي يمتلك الشرعية) على أن يصوغ "معنى"
وجوده... لذلك من حقه وجوداً ومعنىً أن يقرر كل شيء، ويفضي بنا هذا إلى أن من حق
الفرد إن أراد أن ينتحر، أن ينتحر... وقد نقل عن سارتر بأن أحد تلامذته أسرّ له
برغبته في الانتحار، فلم يمنعه، لأن الانتحار (إنهاء الوجود) هو قرار وجودي
محضّ...! بينما سارتر أراد أن ينقذنا من "عدمية" هيدجر، سقط في عدمية انحلالية،
لا أخلاق لها، فحتى الوجود ذاته، لم يستطع أن يبرر ذاته...!
تذهب
بنا هذه الرؤى إلى لحظة "احتضار الفلسفة" (لن أقول موتها)، إذ لم يعد
هناك معنى لكي نسعى وراءه، فنحن المعنى، وفي ذات الوقت المعنى نحن... وهكذا مات
أجمل "حلم" لدى الإنسان... حلم أن يجد خارج آفاق وجوده وجود آخر، يساعده
في حمله الثقيل – أقصد السؤال الفلسفي عن معنى وجوده، أو فلسفة السؤال عن وجود
المعنى!!!
**
3-3-2009
**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق