نقد النفسانية
مدخل إلى المنطق المحض
لدى هوسرل
بدايات تشكل الفنومينولوجيا
سليمان السلطان
مقدمة
أحيانا
ما ننتقده قد يكون له تأثيرا علينا أكثر من أي شيء آخر، ويصدق هذا على حال هوسرل
في مقامنا هنا، فبالرغم من حربه الضروس على "النفسانيين"، إلا أننا لا
نماري إن قلنا بأنه مدين لهم بصورة أو بأخرى، فلربما لم يكن له أن ينتقد النفسانية
Psychologism
كما بسط ذلك في"مقدمة
في المنطق المحض" Prolegomena to Pure Logic عام 1899 لو لم يكن هو في
السابق ينتمي لها، وكانت مقدمته هذه بمثابة إعلان عن "انقلابه" ضد هذه
النزعة، بيد أنه لم يكن أول من أنتقد النفسانية، إذ هي تنتمي إلى فضاء الفلسفة
التجريبية، وكما هو معلوم فإن نزاعا حامي الوطيس شب بين اصحاب المدرسة التجريبية
والمدرسة العقلانية أو التصورية منذ القرن الثامن عشر، وقد بلغ أشده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي
في زمن هوسرل، وحدث ذلك بالتحديد في ألمانيا، وهي موطن هوسرل أيضا، لذا جاء نقده مدوياً
لها، وقد مكنته خلفيته هذه من أن ينتقدها نقد الخبير العارف، ولا عجب أن يتميز
نقده لها بالعمق، وان يتسم بالصرامة والشدة، ومن الطريف أنه قد اقتبس في مقدمة كتاب
"المباحث المنطقية" مقولة للشاعر الألماني المشهور كوته تقول: "
ليس في وسع المرء أن يكون أكثر صرامة حيال أي أمر أكثر من صرامته حيال الأخطاء التي
كان يقترفها حين يؤوب عنها "، فكأنه يكفر بنقده لها عن خطيئة أنه كان نفسانيا
في السابق، ونقده ايضا اتسم بالراديكالية.
لكن
نقده للنفسانية خاصة وللطبيعانية Naturalism عامة لم يقتصر على الشجب وحسب،
بل أفضى ذلك إلى التنظير لمفهوم "المنطق المحض" أو "المنطق الصوري
والترنسندنتالي"، وبهذا كان بمثابة مقدمة لتأسيس علم في الماهيات (وهو ما سوف
يصبح الموضوع الأساسي في فلسفته الفنومينولوجية في وقت لاحق)، بحكم أن علم النفس
بنزعته التجريبية كما يقول هوسرل "غير قادر على اكتشاف المثال Ideal أو الحقيقة
Truth،
لهذا كان من الضروري البحث عن علم يقوم بذلك وهذا العلم سماه هوسرل "بالمنطق
المحض"، لاحقاً، قد قام بمراجعة أطروحته هذه ودعاها "بالفنومينولوجيا
المتعالية أو تبسيطاً (الفنومينولوجيا)"[1].
يذكر
لنا أوجن فِنك Eugen
Fink
(من أهم تلامذة هوسرل) بأن التطور الفلسفي لأستاذه هوسرل مرّ
بثلاثة أطوار: "الأول دعاه بالطور النفساني، ويمتد ما بين 1887 و 1901، أو يمكن
أن يدعى بطور صراع هوسرل مع النفسانية [...] والطور الثاني، دعاه فنك
بالفنومينولوجيا الوصفية، وامتد ما بين 1901 إلى 1913، أما الطور الثالث، فيسمى بالفنومينولوجيا
المتعالية، يمتد ما بين 1913 إلى 1938".[2] وهكذا، تكمن
أهمية الطور الثاني بأنه قطعية مع ما سبقها، وفي ذات الوقت هو مقدمة (أو لنقل
اللبنة الأول) لما سيلحقها.
ولكن
وراء ذلك تاريخاً مهماً في مسيرة هوسرل الفكرية، لقد بدأ هوسرل حياته العلمية
كباحث في الرياضيات، ثم عانق الفلسفة تحت تأثير أستاذه في الفلسفة "فرانز
برنتانو" الذي أعجب هوسرل به لما بذله من جهد مضني لإنشاء الفلسفة على أساس
دقيق وصارم، وكان هوسرل مقتنعاً – تحت تأثير برنتانو– بأن في مقدورنا أن نقبض على
حقائق المفاهيم الرياضية من خلال تتبع "تقوّمها" Constitution في
النفس البشرية، وفي كتابه المسمى "فلسفة الحساب" "أنطلق من الفرضية
السائدة التي تذهب إلى أن الأمل معقود على علم النفس الذي على أساسه يستند المنطق
بعمومه ومنطق العلوم لإنجاز فلسفة تتسم بالوضوح، لكنه سرعان ما أدرك بأنه لا يمكن
معالجة الوحدة المنطقية القائمة في مضمون الفكر معالجة مرضية من منطلق
سيكولوجي"[3]، وقاده هذا إلى
تأمل المفاهيم الرياضية بعمق أكبر[4]، وقد أدرك أيضاً بأن جوهر المفاهيم الرياضية لا
يمكن أن تكون كميةً، بل هي صورية، لا علاقة له بالعمليات الحسابية من حيث أنها
أفعال أو أحداث في الذهن يمكن رصدها نفسياً عن طريق التجربة الذاتية الجوانية
ولكنها "صور مثالية". وقد ألهمَ ذلك هوسرل في أن ينظر إلى المنطق بنفس
النظرة، فميّز بين المنطق من حيث أنه مضمون خالص، و من حيث أنه معياري وعملي، حيث
أن هناك رابطة - كما لحظ – تجمع ما بين الرياضيات والمنطق ، تمثلت في اشتراكهما
بالبنية الصورية لمضمون قوانينهما.
في
هذا المبحث، سأتناول أولاً نقد هوسرل للنفسانية سواء من خلال أحكامها أو من خلال
النتائج التي توصلت لها وفقاً لهذه الأحكام، كمدخل للوقوف على نظرية هوسرل في
المنطق المحض، وهذه الطريقة في التناول تتساوق مع الإطار العام الذي خطه هوسرل في "مقدمة
في المنطق المحض" حيث أنه آثر البدء بالنقد على التنظير من حيث المرتبة، فجاء
نقد النفسانية سابقاً على الطرح التنظيري للمنطق المحض، فضلا على أنه يتساوق مع
التطور الفكري لهوسرل كما يتضح للملم بمنعطفات مشروعه الفلسفي. وفي الخاتمة، نقف
لماما على ملامح الفكر الذي قاد هوسرل لاحقا إلى تأسيس الفنومينولوجيا في مرحلته
الفلسفية المتأخرة، ووصل ذلك بمرحلة "المنطق المحض".
***
نقد النفسانية
لقد
اتخذ نقد هوسرل للنفسانية بالعموم منحنين اثنين، المنحى الأول هو النظر إليها من
منظور ما يستند عليه اتباعها من فروضات ومسبقات للوصول إلى نتائج معينة تدعم
مزاعمهم، و المنحى الآخر هو النظر لهذه النتائج لكي يدحض تساوقها مع مقدماتها، فلم
يكتفِ في أن يهدم الأسس التي قامت عليها احكامهم بل حتى نتائج هذه الأحكام، وهنا
نلحظ راديكاليته التي اشرت إليها سلفا، وكأنه كان لا يريد أن تقوم لها قائمة أخرى،
فقد استنزف تاريخ الفلسفة هذا النزاع المطوّل، ولعل هوسرل رأى بأن قد آن وقت البت
فيه، وتجاوزه.
أولا: دحض النفسانية من منظور أحكامها المسبقة
رأى
هوسرل أن يتفحص أحكام النزعة النفسانية لكي يرى إلى أي مدى تتوافق مع مفهوم
المنطق، أو لكي يكشف عن تحاملها الذي نتج عن خلط وتشويش، وقسم هذه الأقوال إلى
ثلاث أحكام مسبقة رئيسية:
الحكم المسبق الأول - فكرة الدحض: أساس المنطق نظري لا
معياري
يعتبر
النفسانيون المنطق علماً معيارياً، بحكم أنه "تكنولوجيا" التفكير كما
يُطلق عليه عادة، ودور قوانين المنطق - على هذا الأساس – تكمن في تنظيم
"الأفعال الذهنية". ولكي نصل إلى "النهج" الذي ينبغي أن نسلكه
لكي نصدر حكماً صائباً على قضية ما، ينبغي لنا أن نلمّ بطرائق التفكير البشري
ذاتها التي تعمل من خلال أفعال في الذهن، يلخص لنا هوسرل رأيهم هذا، ويقول:
"إن هذه القواعد التي تقوم بضبط ما هو عقلي، لابدّ أن تستند على أساس ذهني
[نفسي]، ولذا فإن المبادئ المعيارية للمعرفة – كما هو بيّن - يجب أن تستند على
سيكولوجيا المعرفة"[5].
قاطعاً
على النفسانيين رد المنطق إلى أصل نفسي من حيث أنه علم معياري، يرى هوسرل "أن القوانين المنطقية ليس
قضايا معيارية، أعنى قواعد تنبئنا – كجزء من مضمونها – بالكيفية التي على المرء
إتباعها في الحكم، ولذلك فهو يدعو إلى تمييز القوانين التي تستخدم كمعايير
لفعاليتنا المعرفية من القوانين المنطوية على المعيارية في مضمونها الفكري"[6] فأساس
المنطق نظري محض، بغض النظر عن توظيفنا لهذه القوانين في صيغ معيارية، ويضرب هوسرل
لنا مثالاً من القياس المنطقي، لكي يوضح ذلك: كل "أ" هو "ب"،
و"س" هي "أ"، فإن "س" هي أيضاً "ب"، فإن
مضمون هذه القياس - كما هو واضح - نظري محض، غير أن بالإمكان توظيفه معيارياً، كأن
يحكم أحدهم على أساس أن "أ" هو "ب"، فإن "س" ينبغي
أن تكون "أ"، لكن لا ينبغي أن ننخدع بصورتها المعيارية هذه، فيلقى في
أذهاننا بأنها في أساسها معيارية أي من حيث مضمونها.
وللتأكيد على أساس المنطق النظري، يعول
هوسرل على الرياضيات إذ أنها توازي في جوهرها المنطق المحض، لذا يضرب لنا هوسرل
مثالاً منها للبرهنة على ذلك، فيخبرنا بأن حاصل ضرب مجموع عددين يساوي الفرق بين
مربعيهما، كما في التعبير الرياضي التالي:
(أ+ب) (أ-ب) = أ2 – ب2
ثم يعقب هوسرل ويقول: "هنا لا يوجد أي
أشارة إلى حكمنا ولا إلى فعل ما ينبغي أن يكون، بل نحن هنا أمام قانون نظري"
ولكن أن قلنا "لكي نحصل على حاصل جمع عددين والفرق بين عددين، ينبغي للمرء ن
يجد الفرق بين مربعيهما، نعبر بالتالي عن قانون عملي لا نظري"[7]
من
المهم أن نشير إلى أن هوسرل لم ينكر الجانب المعياري للمنطق، ولكنه يؤكد على أولية
النظري على المعياري، لأن الاستدلال المعياري في القوانين المنطقية لا يمكن أن
يقوم لها قائمة إلا في ظل أساسها النظري، فالقوانين المنطقية هي حقائق نظرية
تماماً مثلها مثل الرياضيات البحتة.
ورأيُ
هوسرل هنا لا يخالف النفسانيين وحسب مثل "مل" و"سجوارت"
و"إيردمان" بل هو يخالف غيرهم ممن لم يروا في المنطق إلا جانبه
المعياري، كديكارت في كتابه "مقال في المنهج" وأسبنوزا في "إصلاح
العقل"[8] ، وظل هذا
اللبس - وفقاً لهوسرل - قائماً حتى لدى خصوم النفسانية، إذ أنهم "أخطئوا في
اعتبار أن جوهر قوانين المنطق هو ضبط Regulation المعرفة، وهكذا أخفقوا في إنصاف الطابع
النظري الخالص للمنطق الصوري، وذلك فيما يتعلق بعلاقته بالرياضيات الصورية "[9].
ورغم
أن المنطق له دور مهم في تقنين وتنظيم المعرفة، إلا أن هذا لا يمثل جوهر المنطق، فإنه
كعلم محض يؤسس كذلك تصوراته الخاصة التي تحدد ذاتها بذاتها، لأن له "خصوصية
كونه موضوعاً لمضمون قوانينه الخاصة، فالعناصر والروابط النظرية التي يتألف منها
كوحدة نسقية للحقائق، هي موضوع للقوانين التي تختص بمضمونها النظري"[10]. ويبرهن هوسرل
على ذلك من خلال مبدأ عدم التناقض، إذ يمكننا أن نبني عليه حقائق أخرى من مجالات أخرى
(ليكن في العلوم الطبيعية مثلا) من حيث أنه مبدأ حقيقي حيث أنه يحقق ذاته بذاته من
حيث مضمونه الحقيقي، وهكذا يمكننا أن نقول بكثير من الطمئنينة بأن المنطق المحض
لدى هوسرل هو أساس" الأساس"، أو هو نظرية "النظرية"!.
على
ضوء ذلك، يرى هوسرل بأن لكل علم جانبين: الجانب الأول يتعلق بالأجهزة البشرية التي
تُوظف في الأساليب العلمية، ويطلق هوسرل على هذا بالمنطق المنهجي Methodological
Logic، وهو منطق له طابع نفساني، تمليه الطبيعة البشرية والقدرات
البشرية التي تعمل عملها في عملية المعرفة، استناداً على "الأدوات" التي
يعول عليها عالم الطبيعة مثلاً لإنتاج "المعرفة".
والجانب
الآخر للعلم "يختص فيما يخطرنا عن مضمونه النظري، وكل مقولة تنطق من حيث أنها
قضية مثالية بالحقيقة Truth" ، ولأن هذا الجانب هو من طبيعة مثالية
خالصة، فهو محط اهتمام المنطق المحض، لذا "يعتني المنطق المحض بهذا الجانب
المثالي من العلم من حيث صورته، ولا يعتني بمادة معينة من العلوم الخاصة المتنوعة،
ولا حتى خصوصية حقائقها وصورها، ولكنه يعتني بما يتعلق بالحقيقة وبالتآلفات
النظرية للحقائق بما هي كذلك" [11].
ووجود
جانب يختص بالمنهج المنطقي في العلوم لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن الجانب النظري في
المعرفة حيث أنه الأهم لدى هوسرل لأنه يبحث في الصورة النظريّة الممكنة لروابط
الحقائق في العلوم، "ولذلك كان على كل علم – من حيث هو وحدة نظرية موضوعية –
أن يكون متسقاً مع قوانين المنطق الخالص، وهي من طبيعة مثاليّة خالصة، ومعنى ذلك
أن كل نظام عملي يفترض مسبقاً بعض الحقائق النظرية، وهي جزء من المنطق الخالص
بالتأكيد"[12]. وعليه، فإن
هناك صنفين من المعيار Norm، الصنف الأول مثالي ومحض يتعلق بمعارفنا
البشرية القَبْلية، أما الصنف الآخر، فإنه تجريبي، وهو عبارة عن أداة مساعدة لأي
عملية برهانية في الحقل المعرفي، وهي مختصة علماً بالجانب البشرية، لذا "هي
مبنية على التكوين البشرية النفسي، بل حتى التكوين الفيزيقي"[13].
على
هذا الأساس، يقلب هوسرل الطاولة على خصومه النفسانيين، فالمنطق من حيث أنه علم
نظري ليس "علماً" فقط مستقل عن العلوم، بل هو أيضاً الذي يشكل الأساس الحقيقي
لها، فالمنطق المحض هو الذي "يؤطر
المفاهيم التي تكوّن النسق المثالي أو الوحدة النظرية والتي تقوم بتقصي الروابط
النظرية التي تتجذر فيها المفاهيم لوحدها ، وهذا العلم هو علم متفرد في خصوصيته، عبارة
عن تصور لذاته، يحتوي على قانونه بذاته – والعناصر والروابط التي تتألف كنسق وحدوي
Systematic Unit من
الحقائق يتم التحكم بها من قبل القوانين ذاتها، والتي تشكل جزءاً من محتواها
النظري "[14]، وهذا العلم
المستقل يحتكم إلى نفسه بالضرورة، لا لشيء آخر، لأن "للمنطق خصوصية كون محتواه
هو قوانينه ذاتها، والعلاقات والعناصر النظرية التي يتكون منها على شاكلة نسق
وحدوي للحقائق هي موضوع القوانين التي تختص بمحتواه النظري"[15]، ويضرب
هوسرل مثالا على ذلك، ويقول: " إن مبدأ عدم التناقض يحكم كل الحقائق بحكم أنه
حقيقي بذاته، فيحكم بهذا لذاته"[16]، وهو ليس في
حاجة إلى أي عامل خارجي لأجل ذلك، مثل أن ننظر للموضوعات في الخارج، ونعرف بأن
الأشياء لا يمكن ان تكون موجودة ومعدومة في ذات الوقت.
الحكم
المسبق الثاني - فكرة الدحض: المنطق مجال نظري مثله مثل الرياضة البحتة
الحكم
المسبق الذي يذهب إليه النفسانيون، يستند على فكرتهم الأولى الآنفة الذكر، أي كون المعرفة
في أساسها نفسية، فإن مضمونها لذلك ذو
طبيعة تجريبية، إن موضوع المنطق من تمثلات واحكام وبرهان واحتمال وإمكان وضرورة
تتم - في نظر النفسانيين - كخبرات نفسية، وعليه لابد من الاستناد على علم النفس
لكي نقف على جوهر "الحقيقة"، والمنطق - وفقاً لذلك – لابد أن يكون فرعاً
من علم النفس.
إن
كان المنطق فرعاً من علم النفس - كما يرد عليهم هوسرل - فإن الرياضة البحتة هي
كذلك فرع من علم النفس، لأن المنطق المحض والرياضة البحتة من جوهر واحد، فإن جاز
أن نقول بأن المنطق هو فرع من علم النفس، بحكم رد قوانينه إلى وقائع نفسية، لصح أن
نقول ذات الشيء عن الرياضيات البحتة، وهو قول واضح التهافت، لأن الرياضية البحتة
نظرية بطبعها، يقول هوسرل متهكماً: "سترتسم ابتسامة على محيا عالم الرياضيات،
إن قيل له أن نتائج بحوث علم النفس، ستمده بأساس أقوم لتدعيم أقواله النظرية"[17].
رغم
إقرار هوسرل بوجود تشابه بين بنية العمليات الذهنية والرياضيات إلا أن هوسرل يؤكد
على أن النفسي والرياضي ينتميان إلى مجالين مختلفين كليةً، وهذا الاختلاف يمس صميم المضمون لكلاهما، وهكذا
لا يحق لنا البتةً أن نضعهما على نفس المستوى، الرياضي من حيث أن مجاله هو العلم
النظري التجريدي لا علاقة له بالحدث الذي هو موضوع النفسي من حيث ان مجاله هو
العملي التجريبي، ولذلك يرى هوسرل أن العمليات الحسابية (الرياضية) تحدث في صورة
"أفعال" تتشابه مع الأفعال الذهنية غير أن القضية الرياضية في مضمونها
هي صورية، بينما القضية النفسية فهي وقائعية Factual، فقضية
رياضية مثل ( 2+2=4 ) هي قضية مثاليه من حيث صورتها، لذا يمكن أن نستعيض عن هذه
الأرقام، وتبقى الصورة واحدة، كما أن العمليات الذهنية
زمانية، بمعنى أن لها بداية ولها نهاية، إذ أنها "حدث"، وهكذا يمكن أن
تتكرر وتحسب فرادى، بينما العمليات الرياضية فهي عبارة عن وحدات مثالية، فماهية
العدد (وهو الذي يعبر عن مضمون العمليات الرياضية) غير فعل التعداد الذي قد يرجع
إلى فعل نفسي، الأعداد كوحدات مثالية لا زمان لها، ويمكننا تمثّل الأعداد، لكن هذا
"التمثل"، ليس إنتاجاً لعدد جديد، بل بالأحرى تجسيد لصورة
"العدد" ذاته، يقول هوسرل مدللاً على فكرته هذه، "العدد خمسة ليس
"خمسة" الخاص بي، أو بأي أحد آخر، كما أنه ليس تمثيلي أنا أو تمثيل أي
أحد آخر، إنه في الحالة الثانية [أي من
حيث أنه فعل عد]، يعتبر موضوعا ممكنا لفعل التمثل، بينما في الحالة الأولى، إنه
نوع مثالي لصورة، نجد حالاتها Instances
موضوعاً في أفعال معينة من التعداد"[18].
يقصد
هوسرل من ذلك أن الأعداد هي وحدات فردانية Singular ذات طابع صوري مثالي، فهناك عدد
"واحد" فقط من حيث صورته المثالية، أما التعداد (أي فعل العد) فإن يتكرر
بلانهاية، لذا هو ما نعني به في العمليات الذهنية، ولا ينبغي أن نخلط بينهما كما
يفعل النفساني، وذات الأمر ينطبق على قوانين المنطق، فهي فردانية لا تتكرر من حيث ماهيتها،
كما أنها ليست تجريداً أو تعميماً لفعل التعداد كما يقول التجربيون، بل هي تمثل
ماهيات فردانية مثالية.
وهذا
"الاشتباه" أنسحب على الأحكام أيضاً، ففي مقدورنا أن نعدد الأحكام التي
نصدرها استناداً على أدراك لحالات متعددة تحدث نفسياً، وهي حالات تحدث في وقت
معين، فلها بداية ونهاية، وتتكرر بقدر ما نحب في "أحداث" يمكن أن نميّز
أحدهم عن الآخر، وفي الناحية الأخرى، الحكم الذي وصلنا إليه من حيث أنه مضمون يبقى
واحداً في كل مرة يتم إصدار حكم، وبهذا المعنى، حقيقة الحكم ليس فعلاً ذهنياً
(نفسانياً) "إذ يمكننا تسمية الحكم في المنطق – من حيث هو ميثودولوجيا - بأنه
خبرة نفسيه، ولكن في المنطق الخالص، هي عبارة عن قضية أو وحدة مثالية للمعنى"[19]، يسمّي هوسرل
الحكم من حيث أنه مضمون مثالي "قضايا"، لكي يفرق بينها وبين فعل الحكم
ذاته المتعلق بالخبرة النفسية، وهذه القضايا هي مضمون الحكم، هي وحدات مثالية، لا
علاقة لها بالوقائع المتغيِّرة.
الحكم
المسبق الثالث - فكرة الدحض: الحكم مرتبط بالحقيقة الذي يقوم على البينة البديهية
يقول
هوسرل ملخصاً القول الثالث للنفسانية: "الحقيقة تتعلق بالحكم، غير أن الحكم
هذا يتم التعرف عليه كحقيقة فقط عندما يكون بيّناً داخلياً. وعبارة "البيّنة
الداخلية" Inner
Evidence يعبر -كما يقال – عن حالة ذهنية معينة، معروفةً جيداً لكل فرد من
خلال خبرته الذاتية، إنها شعور معين يقوم بضمان حقيقة الحكم المرتبط به هذا
الشعور، ولما كان المنطق عبارة عن تكنولوجيا [آلة] مهمته المساعدة في الكشف عمّا هو
حقيقي ، فإن من الواضح أن القوانين المنطقية هي قضايا من طبيعة نفسية، بل هي في
واقع الأمر قضايا مهمتها تسليط الضوء على الشروط النفسية التي تعتمد على حضور أو
غياب هذا (الشعور بالبينة الداخلي) "[20].
رغم
أن هوسرل يرفض هذا القول إلا أنه لا يماري فيما يتعلق بتعريف "البيّنة" Evidence لدى
النفسانيين، فقد يكون للبينّة أصل نفسي، لتعلقها بالطبيعة البشرية، ولذلك قد تخضع للشروط
النفسية، إذ أن هوسرل "يبيح للمنطق بوصفه ميثودولوجيا النظر في الشروط
النفسية التي تعين في جعل بداهة الأحكام ممكنة، وذلك لما له من صلة حميمية
بالطبيعة البشرية نفسها ما دام البشر أنفسهم هم الذين يطبقون الحقائق النظرية التي
يعرفونها"[21]، لكن هوسرل
يعترض على أن نعلق "الحقيقة" بمثل هذا النوع من البينّة، لأننا أن شرطنا
بداهتها في الحكم بالشعور الداخلي النفسي، فمن الطبيعي أن تكون الحقيقة مخادعة حيث
أنها تصبح بذلك مرهونة بشرط ذاتي يقضي على كل زعم يدعي وجود معرفة موضوعية، وإن
كانت البينة شعوراً داخلياً، فلن يتسنى لنا أن نفرق ما بين الموضوعي والذاتي، ولن
نستطيع أن نسوغ لبداهة البينّة، فالحكم بديهي في هذه القضايا، لأنه كذلك، وليس
لأننا نحكم عليه بذلك.
والأنكى
أن هذا يفضي بنا أن نجد انفسنا عاجزينا أن نفرق ما بين المعياري والوصفي، إن مهمة المنطق
من حيث أنه آلة (تكنولوجيا) للفكر كما يرى جمع غفير من الفلاسفة (لا يقتصر هؤلاء
على النفسانيين وحدهم) ضبط الفكر وتنظيمه
في قواعد على نسق الحقيقة ذاتها، ولكن للمنطق جانباً نظرياً مهمته أن يصف لنا
التفكير "الصحيح" من حيث أنه كذلك، بغض النظر عن إصدار أي حكم، بمعنى
أنه يحكم ذاته بذاته، القضية التي تقول: 1+1=2 هي قضية قَبْلية، الحكم فيها يظهر
لنا بداهةَ، لأنها تستند على مبدأ الهوية (فإن مضمونها يقول بصيغة أخرى 2=2)، وهو
مبدأ مرتبط بالبداهة، لذا هو بيّن بذاته، وليس مشروطا بحالة نفسية معينة، بل هو
أمر ثابت وقائم بذاته. وما انفك هوسرل
التأكيد على أن الحقيقة هنا منفصلة عن فعل الحكم إذ أن "أفعال الحكم"
ليست هي ذاتها "مضمونه "، فالأفعال لها طابع وقائعي وتجريبي متعلق
بالتكوين البشري الطبيعي والنفسي، ولكن "الحكم" من حيث أنه كذلك هو تصور
مثالي ونظري محض، ولا يتعلق بحالة من الحالات أو بواقعة من الوقائع، ولذلك ليس
خاضعاً للشرط النفسي.
هنا
يفرق هوسرل ما بين الشرط النفسي والشرط المثالي، إن قوانين المنطق المحض هي قوانين
حقيقية لأنها قوانين تتأسس على الحقيقة بذاتها، وهكذا تحتوي على شرطها المثالي الخاص
بالمعارف العقلية الممكنة، والبيّنة بهذه الصورة لا تخضع للشرط النفسي وحسب،
ولكنها تخضع كذلك لهذا الشرط المثالي في قوانين المنطق المحض التي لا تتعلق
بالتكوين البشري.
فمدار
حجة هوسرل في دحض هذا القول للنفسانية، هو التأكيد على التمايز ما بين المضمون
الوقائعي الفردي الذي يختص بالمجال التجريبي الطبيعي، وبين المضمون المثالي
الوحدوي الذي يختص بالمجال النظري المحض، والأول مجال تجريبي بَعْدي، أما الثاني،
فهو مجال قبلي مفارق للتجربة الحسية، وقول النفسانيين بأن البيّنة مردها الخبرة،
هو خلط بين المجالين: التجريبي والنظري في عمليات المنطق مثل الاستنتاج والحكم
والبرهان، لأن الأساس الحقيقي لها هو جانبها النظري المحض، وليس كما تحدث في
الخبرة الذاتية، وما يتعلق بها من شروط نفسية.
ويعاضد هذا التمايز – كما يؤكد هوسرل - هو أن هناك من المواضيع ما هو ممتنع
من وجهة كونها وقائع نفسية، ولكنها ممكنة عقلاً، فإن هناك على سبيل المثال اعدادا
في الترليونات من الأمكنة، قد لا يمكن تخيلها، دع عنك إجراء مختلف العمليات
الرياضية عليها، وفي مثل هذه الحالة تبدو البينة ممتنعة نفسياً، بينهما هي ممكنة
عقلياً.
ثانيا:
دحض النفسانية من منظور نتائجها
هوسرل
يحاكم هنا النزعة النفسانية فيما يتعلق بموقفها إزاء "جوهر" المنطق،
ولكن من منظور آخر، فهو يسلم بمقدماتها لا لأنه يعتقد بها حقاً، ولكن من باب
الحجاج، لذا يرتكز نقده هنا على ما يترتب على أقوالهم من نتائج، سواء من خلال
العواقب الفادحة التي ستفضي بها أقوالهم أو التهافت ما بين مقدمات أقوالهم
ونتائجها.
الدقة
بين علم النفس والمنطق:
المنطق
- مهما اختلفنا في أصل جوهره - هو علم يتسم بالوضوح والدقة، فلا نجد غموضاً - من
وجهة نظر هوسرل - في قواعده، على الأقل الأساسية منها كالقياس والبرهان، غير أن
قوانين علم النفس يحفوها الكثيرُ من الغموض، لأنها قواعد مبنية على تعميم التجربة،
فالقوانين العامة الذي يتم الوصول إليها عن طريق التعميم الاستقرائي هي تعميم
لخبرات فردية، تمّ صياغتها على أساس تقنين تقريبي لوقائع متعاقبة أو متزامنة، لا
تستطيع أن تزعم اليقين في ترابطها، لذا هي قوانين غامضة، وينقصها الدقة، كما يقول
هوسرل: "فقط القواعد الغامضة هي التي تستند على أسس غامضة، وإن كانت قوانين
علم النفس تفتقر إلى "الدقة"، فنفس الشيء لابد أن ينطبق على قواعد
المنطق"... وهذا خُلُف، لأن قوانين المنطق هي " قوانين صادقة وليست
"مجرد" تجربة امبريقية أو قوانين تقريبية، وكل محاولة لجعلها تعول على
شروط تجريبية لابد أن يمس تماماً معناها الحقيقي"[22]، لذا لا
نستطيع - من وجهة نظر هوسرل – قبولَ أن
"المنطق" فرع من علم النفس، فإن كانت العلاقة التي تربط المنطق بعلم النفس مثل العلاقة التي تربط الجزء
بالكل، فلابد أن يكونان إذن من ذات الجوهر، والواقع يخالف ذلك، فالمنطق يتسم
بالدقة والوضوح، بينما يكتنف قواعد علم النفس الغموض، ويعتريها الخطأ.
قَبْلية
القوانين بين الطبيعي والمنطقي
ويستمر
هوسرل في القول أن علم النفس كسائر العلوم التجريبية الأخرى علم حسي، ومن ثم هو
علم لا يقوم على القطعيات والضروريات بل على التنبؤات والاحتمالات، ومن هذا
المنحى، شتان ما بين المنطق وعلم النفس، وإلحاق المنطق بعلم النفس من شأنه أن يجعل
من المنطق علماً تجريبياً حسياً، ويسلب منه خاصيته الأولية الضرورية أي قبليته
التي تتشكل بعيدا عن عالم الحس والتجربة ومنهجها الاستقرائي الذي ينطلق من رصد ما
هو جزئي ليبلغ به مصاف القانون الذي يزعم بأنه كلي، وهو ليس كذلك إلا من حيث فقط
اشتماله على الحالات الجزئية التي رصدها بعْديا لا قبْليا، يقول هوسرل: "لا
يمكن معرفة القوانين الطبيعية قبلياً، وهي عصية عن تأصيلها بالاستبصار المجرد، بل
إن السبيل الوحيدة التي يمكن من خلاله تأسيس وتسويغ القانون الطبيعي هو القيام
باستقراء وقائع فردية للتجربة"[23].
قوانين
الفكر ليست احتمالية:
وإن
اعتبرنا أن قوانين المنطق طبيعية، سينتج عن هذا أن تصبح قوانين المنطق من ذات الجوهر
التي للعلوم الطبيعية، وستصبح من ثم هي ذاتها احتماليةً، وهو ما يتعارض مع ما نراه
في مصداقية قوانين المنطق، إذ أنها قبلية، يقوم صدقها على أساس بيّنتها الداخلية
البديهية Apodeictic
inner evidence، وهي قوانين تنطبق في كل زمان ومكان، ولا
تخضع لما هو عرضي وحالي مؤقت.
كما
لن يجديهم نفعاً إن زعموا بأن القوانين الطبيعية هي قوانين دقيقة وحاسمة، فمن
السهولة رد هذا، لأن قوانينها ليست "قبلية"، بل هي بعدية تقوم على
الاستقراء، ومن هنا وقوعها يخضع للاحتمال لا للضرورة، لكن ذلك بخلاف قوانين المنطق
التي تتسم باليقينية والضرورة، لأنها تقوم كليةً على البيّنة البديهية، فلا يمكن
أن يزعم أحد حتى من دون القيام بأي تجربة خارجية بأن قضية قَبْلية ما يمكن أن تكون
كاذبة وصادقة في ذات الوقت، فنحن نعرف بأن هذا القول هو قول متناقض، ويُرد عقلاً،
استناداً على مبدأ عدم التناقض الذي يتم استبصاره عقلياً مباشر من دون الاستعانة
بأي تجربة حسية خارجية.
وثمة
عواقب وخيمة وراء القول بأن قوانين الفكر هي قوانين مبنية على قانون السببية الطبيعي،
إذ لا يمكن وفقا لذلك أن نضمن بأننا على يقين من أي شيء، إذ أن المعرفة ستصبح
"مجرد احتمال" من دون أي ضابط أو رابط، وهذا لابد أن يفضي بنا إلى
الاعتقاد بأن مثل هذا القول أيضاً هو احتمال، وهكذا يمكن أن نردد هذا إلى ما
لانهاية...!
بل إن الاعتقاد بأن قوانين الفكر تمضي على نفس
الصورة التي تمضي بها قوانين الطبيعة يستنقص من ثبوت المعرفة! فلا بد أن نفرق -كما
يؤكد هوسرل- بين قوانين المنطق كمضامين للحكم، وبين أفعال الحكم ذاتها، فالأخيرة
ليست إلا حدثاً يشتمل على علة ومعلول، بينما الأولى هي مثالية من حيث انها حقائق
متعالية وكلية بكل معنى الكلمة.
مهمة
علم النفس والمنطق:
وثمة
اختلاف آخر يتمثل في وظيفة كل من علم النفس والمنطق، فإننا نلحظ اختلافا
وظيفيا بينهما، فبينما العلم الطبيعي يهتم
بـ" استقصاء القوانين التي تتحكم بالروابط الواقعية للحوادث الذهنية مع بعضها
البعض. وهذه الروابط هي روابط سببية" فإن "مهمة المنطق مختلفة عن ذلك
تماماً، إنها لا تعتني بتقصي الأصول السببية أو نتائج النشاطات الفكرية، بل ما
تعتني به هو مضمونها الحقيقي"[24].
هل
علم النفس وصفي أو معياري؟:
إن
أعتبر المنطق علما معياريا وحسب، يحق لنا أن نتساءل: ما هو العلم النظري الذي يزود
العلوم بالأساس النظري الضروري لقيام أي علم؟
يجيب النفسانيون على هذا قائلين: بأن علم النفس هو العلم الذي يقوم بهذا
الدور، وهكذا هو فرع من علم النفس، تماماً مثلما أن تكنولوجيا الكيمياء هي فرع من
الكيمياء، فجون ستوارت مل وليبز Lipps مثلاً نظرا إلى المنطق على أنه فرع من علم النفس.
لكن
النفسانيين خلطوا الحابل بالنابل، فلم يفرقوا بين حالتين مختلفتين كل الاختلاف – وهو
الفرق بين (ما هو كائن) و بين (ما ينبغي أن يكون)، إذ إن ذلك من الفروقات التي تفصل
المنطق عن علم النفس. إن علم النفس بحكم
أنه علم تجريبي لابد أن يهتم بوصف "الوضع القائم" كما هو، بينما المنطق
من حيث أنه فن الفكر لابد أن يقرر لنا ما ينبغي أن يكون عليه التفكير الصحيح، غير
أن النفسانيين مثل ليبز Lipps يردون على ذلك قائلين بأن "ما ينبغي أن
يكون" ليس إلا حالة معنية من أصناف التفكير فيما هو قائم، لذا يرون بأن قواعد
الفكر الصحيح لابد أن تتطابق مع قوانين الطبيعية، بمعنى أن ما ينبغي أن يكون، لابد
أن يستند على ما هو قائم، لكن خصومهم يرون في قولهم هذا "دوراً"· Circular – إذ ما يقولونه فعلا هو التالي:
لكي نعرف "ما ينبغي" لابد أن نعرف " ما هو كائن"، ولكن لكي نعرف
"ما هو كائن" لابد أن نعرف "ما ينبغي"، وهنا نجد انفسنا ندور في
حلقة فارغة، بيد أن النفسانيين يردون على ذلك حيث يقولون بأن هذا ينطبق على
"المنطق" أيضا أي لكي يصبح
المنطق علماً لابد له أن يسير على المنطق،
وهذا دور آخر، فالمنطق لا يحق له أن يكون منطقاً إلا بعد أن يؤسس مسبقاً نفسه – من
هنا الإشكالية هي في الفروضات المسبقة Presuppositions التي
يحتوي عليها المنطق، وهذا من شأنه أن يجعل من المنطق ذاته علماً مستحيلاً.
يتدخل
هوسرل ليحل هذه "العقدة" التي نتجت من جراء الجدل بين النفسانيين
وخصومهم، ويرد أصلها إلى لبس وقع فيه كلا الطرفين، يتعلق هذا الاشتباه بمفهوم
"الفرض المسبق" نفسه،
"فالفرض المسبق لقواعد معينة في العلم تعني أنها مقدمات لبراهين العلم
أو أنها قواعد قد تعني ما يتوافق مع العلم لكي يصبح علماً، وكلا المعنيين تم
طرحهما في الحجاج [الذي تم بين النفسانيين وخصومهم] ولأجل هذا، لم يتم التمييز
أيما تمييز بين الاستنتاج وفقا لمبادئ المنطق نفسه، وبين الاستنتاج من
هذه المبادئ"[25]. ويبدي هوسرل اريحية حيال خصومه، إذ يقر بأن النفسانيين
هم الأقرب إلى الصواب، وإن لم يحوزا الصواب باجمعه، وذلك لأنهم انغمسوا بالجدل
بدلا من البحث عن الحقيقة، فغفلوا عن الجانب الأهم في المنطق، وهو الجانب النظري
(نظرية العلم في المنطق المحض) الذي يجعل من المنطق فناً ممكناً للتفكير، وإن اتفق
هوسرل مع خصومهم من الكانطيين والهاربتيين بقولهم باستقلال مجال الحقيقة وإن هذا
المجال هو مجال المنطق، فإنه يقرّ بأنهم في الطرف الآخر غفلوا عن تأسيس هذا
"العلم" النظري في المنطق، بل اكتفوا بأن ساروا على شطآنه ولم يخوضوا
بحاره!.
قوانين
المنطق المحض وموضوع "المعرفة":
قوانين
المنطق لا تخبرنا عن أي واقعة أو عن أي وجود لأي ظاهرة معرفية، فالمعارف المتعلقة
بالوقائع لا يمكن استنتاجها إلا من خلال الاستقراء والتجربة. يقول هوسرل: "كل
معرفة "تبدأ من التجربة "ولكنها لا تنشأ منها، وكل قانون من قوانين
الوقائع تنشأ من التجربة، ويتم تأسيسها بالاستقراء الذي يقوم على تجربة معينة،
وعليه القوانين التي يتم التعرف عليها بالاستبصار، لا يمكن أن تكون قوانين لموضوع
الواقعة A
matter of fact"[26]. والقضايا المنطقية المؤسسة تأسيساً قبلياً
"لا تخبرنا عن الحكم الواقعي أو عن أي ظواهر ذهنية أخرى"[27] بل هي قضايا
نظرية، وهي ما توازي القضايا التحليلية لدى كانط، أي تلك التي يكون المحمول هو
الموضوع فيها، ويمكن –بالتالي- الحكم عليها قَبْلياً، مثل مبدأ الهوية وعدم
التناقض، وهي قضايا تؤسس للمعرفة، ولكنها لا تمدنا بأي معرفة (بمعناها العام) من
محتواها النظري، بينما قضايا علم النفس هي قضايا تركيبية، تقدم لنا معرفة ما.
سبيل
النفسانية هو الريبية لا محالة
إن
القرار الذي اتخذه هوسرل بشأن نبذه للنفسانية التي كان يتبناها في عهده الأول،
ومعانقة فلسفة مغايرة لها يعود إلى أنه وجد أن النفسانية بنزعتها التجريبية عاجزة
عن أن تصل بنا إلى مقام العلم اليقيني، بل إنها عكس ذلك، تفضي بنا إلى دروب
النسبية والريبية، قد تقضي على كل أمل بقيام معرفة نظرية، وهذا ما وجده هوسرل مُفْزِعاً
يهدد دور الروح الأوربية لأنها في زعمه هي التي حملت لواء العقل في التاريخ، كما
صرح بذلك في كتابه "أزمة العلوم الأوربية والفنومينولجيا الترنسندنتالية".
ومن
الطبيعي، أن ينتقد هوسرل النفسانية من منظور أنها تفضي إلى ريبية، ولكن ماذا يعني
هوسرل بالريبية؟
يرى
هوسرل بأن لا قوام للنظرية ولا سيما تلك التي ترتبط بنظرية المنطق من دون وجود ما
يطلق عليه هوسرل بـ"شروط إمكان النظرية" Conditions for the
possibility of a theory، ويقسم هوسرل هذه الشروط إلى قسمين: أولاً
الشروط الذاتية أو القبلية وهي الشروط التي تختص بقيام إمكانية المعرفة بذاتها،
وهي توجد في صيغة عقلية متجذرة في الذاتية نفسها، لذا يدعوها بالشروط العقلية Noetic
Conditions، وثانياً: الشروط الموضوعية لإمكان النظرية، وهي ليست منصبة على
النظرية بوصفها وحدة ذاتية من المعارف، بل من حيث هي وحدة موضوعية من الحقائق أو
القضايا المرتبطة فيما بينها، لذا هي متجذرة في مفاهيم النظرية (لا في صورة
النظرية) خصوصاً في مفاهيم الحقيقة والقضية والموضوع والخاصية والعلاقة إلخ، أي كل
المفاهيم التي تدخل في مفهوم الوحدة النظرية Theoretical unity.
ولا
غنى للمعارف من وجهة نظر هوسرل من هذه الشروط الابستمولوجي لكي تقف على قدم ثابتة، فلن يعوز المعارف
المبنية على هذا الأساس "المعنى" في ظل توفر الشروط العقلية، ولن تفتقر
إلى "الاتساق" في ظل توفر الشروط الموضوعية، يقول هوسرل مشير إلى ذلك:
"إن لم يكن لدى المرء قط الخبرة والفهم الذاتي المباشر مع الحكم الذي ينطق به
، وإن كانت كل أحاكمه التي يصدرها تفتقر للبينّة الداخلية التي تميّز الأحكام
(الصحيحة) من الأحكام المسبقة المضلِّلة، والتي أيضاً تهبه "اليقين
الساطع"، فلن يقدر أن يقدم لنا تفسيراً متيناً وعقلانياً للمعرفة"[28].
الريبية
–إذن- هي التي "تنتهك شروط إمكان النظرية" بحسب تعبير هوسرل، فتخالف
بداهة الشروط النظرية، فتوقعنا بذلك في خُلُف في الأحكام، و هذه الضرب من الريبية
هي التي سيتناولها هوسرل، بينما في الطرف الآخر، يذكر ضرباً آخر من
"الريبية"، ولكنه أشاح بنظره عنه، لأنه غير متعلق بإنكار امكان وجود
شروط معرفية الذي يشكل جوهر أطروحة هوسرل عن "المنطق المحض" و"علم
النظرية"، وهذا الضرب من الريبية لا ينتهك شروط امكان النظرية، بقدر ما يؤكد
على محدودية المعرفة وقصورها عن فهم الأمور الميتافيزيقية، ويضرب على هذا مثالا
مشتقا من فلسفة كانط التي تقر بعجزنا عن معرفة "الأشياء في ذاتها"،
وهوسرل يسمّي هذه "الريبية الميتافيزيقية".
وهو
كذلك يقسم "الريبية" المتعلقة بشروط المعرفة إلى "ريبية فردية
خاصة" و"ريبية نوعية أو أنثروبولوجية" ، ويمثل الأول أكبر تمثيل
مقولة بروتاجوراس "الإنسان مقياس لكل شيء"، ولم يهتم هوسرل كذلك، في نقد
هذه الريبية بتفصيل، بل اكتفى بأن أشار إلى أنها باطلة لأن قائلها لابد أن يقع في
تناقض مع مقولته، فالنسبي يزعم النسبية من خلال مقولة مطلقة، فالقول بأن "كل
شيء يخضع للمقياس الإنساني النسبي" هو زعم مطلق، فلماذا لا تخضع هذه المقولة
لحكمها النسبي، وبالتالي لا يمكن أن نعممه على كل الحقائق وكل الموضوعات.
لكن
هوسرل وجه جل اهتمامه إلى "الريبية النوعية" أو "الأنثروبولوجية"،
لأنها هي التي تمس بعمق نظرية “سيكولوجيا المعرفة”، التي ترهن المعرفة بالنوع الإنساني، وتنكر بذلك
"المعرفة الخالصة" التي هي محط اهتمام هوسرل في المنطق المحض. فضلاً على
أنها كانت شائعة "بين المناطقة النفسانيين في ألمانيا في النصف الثاني من
القرن التاسع عشر من أمثال يجوارت وإيردمان واضرابهما"[29]، وهي كذلك ترتبط
بالمنهج التجريبي ارتباطاً وثيقاً، لأنها ترد المعرفة إلى التكوين البشري رداً
يجعل من "اليقين" مجرد تجربة نفسية بالمعنى الطبيعاني (اي في العلوم
الطبيعية).
يقدم
هوسرل حججه ضد هذه الريبية في ستة مسائل، نختصرها فيما يلي:
المسألة
الأول:
يرى
متبني النسبية أن الحقيقة هي مفهوم كلي (عام)، لأنها تقوم على "النوع"،
ولذا قد يختلف من نوع لآخر، فالحكم على "قضية ما" بأنها صادقة أو كاذبة
يرتبط بالتكوين النوعي لمن يصدر هذا الحكم، يصم هوسرل هذا القول بالتهافت، ويعيب
على قائله بأنه لم يتأمل تأملا جاداً معنى "صادق" و"كاذب" بما
فيه الكفاية، لأن "القانون المؤسسة على بيّنة لا يمكن أن يكون متناقض المعنى،
والكلام عما هو حقيقي لدى هذا أو ذلك هو أمر باطل، فمن التهافت أن نعتبر أن بالإمكان
أن نذهب إلى أن نفس المضمون المتخَذ بشأنه الحكم The same judged content– مع
مراعاة الخطورة في الالتباس هذا مع القول بـ"نفس الحكم" The same
judgment– يكون صادق وكاذب معاً".
مجددا يستند هوسرل هنا بفكرته الأساسية التي تفصل ما بين فعل الحكم ومضمون
الحكم، فمضمون الحكم الذي يعبر عن "الحقيقة" لابد أن يكون واحداً
"سواء لدى الإنسان أو غير الإنسان، عند الملائكة أو عند الآلهة" إن
استخدمنا كلمات هوسرل ذاتها، وعندما نأتي بذكر القوانين المنطقية، فإننا
"نتحدث عن الحقيقة بمعنى الوحدة المثالية التي لا علاقة لها بتعدد الأعراق،
والأفراد والخبرات" وبهذا المعنى عن الحقيقة يصرح هوسرل بأننا نقدر ان نحاجج
بذلك أصحاب "النزعة النسبية Relativism إن اخذوا يشوشون علينا الأمر
"[30].!
المسألة
الثانية:
يذهب
القائل بالنسبية إلى أن من الممكن أن توجد أنواع أخرى تخالفنا مثلاً في مبدأ عدم التناقض
أو الثالث المرفوع، لكن هذا القول باطل لدى هوسرل لأنه أما يعني أن هناك قضايا
وحقائق في أحكام هذه الكائنات الحية لا تنطبق عليها هذه المبادئ، أو أن مجرى الحكم
لديها ليس منظماً سيكولوجياً وفقاً لها، فإن كان المقصود هو المعنى الأول، فإن كان
كل الكائنات تفهم كلمتي "صادق"
و"كاذب" بالمعنى ذاته الذي نفهمه، فلا يمكن الزعم على أساس عقلاني بأن
هذه المبادئ لا تنطبق، وإن كانوا يختلفون في معناهما، فيبقى الخلاف هنا خلافاً
لغوياً لا يتجاوز الاختلاف في الألفاظ، والمعنى هو ما يعنينا، فإن أطلقنا على لفظة
"القضية" على شجرة لن يغير هذا من واقع الأمر شيئاً، أما أن كان المقصود هو المعنى الثاني، فإن
الأمر سيكون بينّاً للتفكير الإنساني، ويظل الخلاف هنا خلافاً يتعلق بالمجال
النفسي، وهو أمر لا علاقة لها بالمضمون المثالي للحقيقة كما أكد على هذا هوسرل
مراراً وتكراراً.
وإصدار
حكم متناقض على قضية لا تقبل التناقض على وجه الحقيقة لا يفسد قانون عدم التناقض
نفسه، لأنه قانون بديهي بيّن بذاته، فمبدأ عدم التناقض لا يقول -كما يزعم
النفسانيون خصوصاً "جون ستوارت مل" - بأن فعلين اثنين من أفعال الاعتقاد
لا يمكن أن يوجدا معاً في وعي واحد بعينه، بل ما عناه المناطقة بقولهم "إن
القضيتين المتناقضتين لا تصدقان معاً" هو أنه يجب أن نختار من كل قطبي
الاعتقاد المتضادة فعلاً واحدا فقط سواء أكانت لفرد أو عدة أفراد وسواء وجدت معاً
أو في لحظات مختلفة... وبكلمات أخرى، يقول هوسرل: " إن مبدأ عدم التناقض لا
ينص بأنه لا يمكن النطق بمقولتين متناقضتين، وإنما ينص بأنه لا يمكن حمل صفتين
متناقضتين على شيء واحد بعينه"[31].
المسألة
الثالثة:
يعيب
هوسرل على أصحاب النسبية أنهم يقررون نتائج كلية ومطلقة، بالرغم من أن دلائلهم تستند
على وقائع جزئية، لكن تكوين نوع ما ليس واقعة من الوقائع، ولا يشتق من الوقائع إلا
وقائع أخرى، وكذلك ربط الحقائق بتكوين النوع يجعلها ذات طابع وقائعي، وهي ليست
كذلك، والحديث عن حقائق وقائعية Facts لا يجوّز تعميمها على سبيل الإطلاق، فإنها
لا تنتمي إلى مجال الحقيقة بذاتها، إذ أنها ليست مفهوماً علّياً ولا فردياً، بل هي
مثالية مطلقة، وتارة أخرى ينتقد هوسرل النفسانية بعدم التفرقة ما بين عالم المثل (وهو
مجال الحقيقة) وعالم الواقع (وهو مجال المنطق التجريبي) لأن " الأول ينبع من
البديهيات التي تستبين عن ذاتها مباشرة، لكن الأخير ينبع من الوقائع
الأمبريقية"[32].
المسألة
الرابعة:
إن
زعم اصحاب الريبية النوعية بأن الحقيقة مرتبطة بالتكوين البشري يستلزم أنه حيث لا
يكون من وجود لهذا التكوين لا يكون من وجود للحقيقة، وهذا تهافت، فالقول بأن:"هناك
حقيقة هي أنه لا توجد حقيقة إلا بوجود الإنسان"، لا تفي بالشروط المنطقية،
لذا هي متهافتة، وهنا هوسرل يؤكد على أن الحكم الذي يخالف الشرط المنطقي (وهو هنا الاتساق)،
فهو حكم يوصف بالتهافت، لأنه لا يتسق مع بعضه البعض، أما إن كانت قضية وقائعية،
فالحكم يتمثل في التكذيب أو التصديق على أساس العالم الموضوعي وحسب، ونحن هنا في
هذه المقولة لا نكذبها أو نصدقها على أساس عالم موضوعي، ولكن على أساس أنها
متهافتة بذاتها، إذن هي تنتمي إلى ذات الجوهر الذي يرتكز عليه رأي النسبيين،
وهوسرل هنا يستخدم أسلوب الطرح المضاد counter-Thesis لدحض الحجة المقابلة لها من ذات منطقها
الداخلي.
المسألة
الخامسة:
القول
بأن الحقيقة تعتمد على تكوين نوعي لم يوجد
قط يلزمنا أن نقول أذن اما أنها لا توجد في الواقع، أو أنها توجد بالنسبة لنا وحسب؟... ولكن ماذا لو زال الكائن الإنساني وكل الكائنات
الأخرى باستثناء النوع الذي هو موضوع التساؤل؟ هل يعني أنه لن يوجد حقيقة، وهذا
أمر سخيف، ففكرة أن عدم وجود هذا التكوين لابد أن يعتمد على هذا التكوين ذاته
تنطوي على تناقض فاضح، لأن التكوين الموجود لابد أن يلزم الحقيقة بوجوده ذاته.
وطالما
أن الحقيقة -كما يقول اصحاب الريبية النوعية - مرتبطة بالتكوين، لا يمكن أن نفهم
هذا "الارتباط" إلا على أساس أنه علة، والقول بالحقيقة بهذا المعنى لابد
أن يستمد حقيقته من "التكوين" (وهو موضوع العلة)، وفي هذه الحالة لابد
أن يكون موجوداً، على ما يبدو أن ما يريد أن يقوله هوسرل هو أن ربط الحقيقة بوجود
التكوين - كما يقولون - لابد أن يلزم وجودهما معاً أو انعدامها معاً، ولا يمكن أن
نفترض التكوين من دون حقيقة أو أن الحقيقة من دون تكوين، فالعلاقة التي تربط
بينهما من ناحية القوانين الحاكمة لهما تختص بعلاقة العلة بالمعلول، وجود العلة
إذن لابد أن يستلزم وجود المعلول، والعكس صحيح، وهنا لا يمكننا أن نتحدث عن افتراض
الوجود باللاوجود حتى لا نقع في هذه المغالطة العقلية.
المسألة
السادسة:
بعد
أن فرغ هوسرل من مناقشة موضوع العلاقة ما بين الحقيقة والتكوين البشرية، يتناول
هنا موضوع العلاقة ما بين الحقيقة والعالم من منظور النسبية، فيلزم نسبية الحقيقة
نسبية وجود العالم لأن العالم كل موضوعي مطابق لنسق مثالي من الحقائق الوقائعية،
وموضع الحقيقة (وهو العالم هنا) يوجد فقط أن كان للحقيقة ذاتها وجود، وإن نظرنا
إلى الحقيقة على أنها ذاتية فلا يصح لنا الاستمرار في النظر إلى موضوعها على أنه
موجود بشكل مطلق أو موجود في ذاته، فإن
قلت بأنني "أنا" من أخبر بهذا الشيء أو ذا،ك فإن لا ضامن لصحة هذا القول
ما دام من الممكن لتكويني النوعي أن يضطرني إلى إنكار هذه القضية أو غيرها، ونتيجةً
لذلك فإن لا وجود للعالم على الإطلاق، ليس بالنسبة لهذا النوع وذاك إلا إذا وجد
نوع من الكائنات القادرة على الحكم، وإن يكون تكوينها يؤلف على هذا النحو بالفعل
حتى يستطيع معرفة العالم. وأما إذا قصرنا الحديث على النوع المعروف لنا في الواقع
أي النوع البيولوجي، فإن هوسرل يرى بان اي تغير في تكوين هذا النوع سينجم عنه تغير
في العالم، رغم أنه هو نتيجة تطور للعالم، فتصبح المسألة مجرد لعبة مسلية -
الإنسان يُخلق من العالم، والعالم يخلق الإنسان، الله يخلق الإنسان، والإنسان يخلق
الله! وهذا عبث من القول، ولا نصبح على بينّة من شيء!
***
مفهوم
المنطق المحض
من
الواضح جداً إن هوسرل كان يحمل هماً معرفياً، وهو ينظر للمنطق بهذه الصورة الخالصة
الصورية، والسؤال الذي طرحه هوسرل على نفسه هو: ما الذي يجعل العلم "علماً:؟
كيف يمكن للمعرفة أن تتأسس على علم أولي، يجعل من المعرفة يقيناً أو مؤسسة على
يقين على أقل الأحوال.
النفسانيون
بنزعتهم التجريبية وقد كانت لهم السيطرة الفكرية في زمن هوسرل اعتقدوا بأن علم
النفس هو الكفيل بأن يحقق لنا هذا، غير أن هوسرل رأى أنه أعجز من أن يقيم لنا
"المعرفة" الخالصة، لأنه علم وقائعي يعول على استقراء الجزئيات، ثم
البلوغ بها إلى تعميمات، فيفتقر بذلك إلى الدقة، ومجاله لذلك لا يمكن أن يكون
الماهيات الكلية. مدفوعاً بهذا الهم
المعرفية ومتعظاً من محاولته الفاشلة في البحث عن أصول المفاهيم الرياضية في علم
النفس، " اضطر هوسرل على أن يتأمل في ماهية المنطق وخاصة العلاقة بين ذاتية
التعرف وموضوعية مضمون المعرفة"[33]، كان يبحث
عن منقذ آخر لإمكانية المعرفة، وقد وجذ ذلك في المنطق.
وحمل
هوسرل على عاتقة مهمة تحرير "المعرفة" من السيكولوجيا، وهذا ما جعله ينظر للمنطق المحض، ورأي أن
"نظام علمي للقوانين والنظريات المثالية التي تم تأسيسها محضاً في
"مغزى" المقولات المثالية للمعنى، أي في المفاهيم الأساسية التي تعتبر
حالة مشتركة لكل العلوم" لأنها هي التي تمد العلوم بالمعنى الموضوعي الذي
يشكل "وحدة النظرية"، على هذا الأساس غاية المنطق المحض هو النظر في
"الشروط المثالية لإمكانية العلم عموماً أو شروط التكوينات المثالية لفكرة
النظرية"[34]، وبالتالي
لا علاقة له بعلم النفس كما تزعم النفسانية.
يقدم
"وليش" (وهو من أكبر شراح فلسفة هوسرل) تعريفاً شاملاً للمنطق المحض:
"المنطق المحض نظام مستقل عن كل ما
عداه من النظم والعلوم استقلالاً تاماً، وأما مهمته فهي تحديد المفاهيم المرتبطة
بفكرة الوحدة النظرية، ولهذا العلم من الخصائص ما يسمح له بشرح محتوى قوانينه
انطلاقاً من ودون أن يلتمس عوناً في ذلك من أي علم آخر، ولهذا كان اهتمام المنطق
المحض مقصوراً على الجانب المثالي أو العقلي في العلم، ولذلك فهو لا يهتم
بالعلوم الجزئية أو مشكلاتها، بل يكتفي بالنظر فيما يكفل ارتباطها بالحقيقة
الواحدة أو بعلاقات النظرية التي تجعلها مرتبطة بالحقيقة على وجه العموم، الأمر
الذي يفسر لنا دعوة هسرل إلى النظر إلى قوانينه – وهو مثالية على التحديد – على
أنها قوانين نظرية وموضوعية في آن معاً"[35]
|
يؤكد
هوسرل على استقلالية المنطق، فهو علم قائم بذاته، ولا يمكن أن نلحقه بعلم النفس
كما يقول النفسانيون، إذ أن قوانينه ذات مضمون مثالي، تحقق ذاتها بذاتها، والأكثر
من ذلك، هم المنطق الأساسي ليس تفسير العلوم الجزئية من حيث كونها علوم جزئية، بل
همه الأساسي هو النظر في وحدة النظرية التي لابد أن تنطوي عليها هذه العلوم لكي
تصبح علوماً.
بهذا
المعنى المنطق لدى هوسرل ليس مجرد منهجاً أو آلة كما هو لدى أرسطو أو ديكارت نعول
عليه لكي يخطرنا عن الطريقة الصحيحة للتفكير، بل هو "كشف" حدسي في الحقيقة
ذاته، من حيث أنه كذلك معنًى ودلالةً، ومن هنا نرى أن "المنطق المحض"
لدى هوسرل هو علم أولي، يكمن معناه في مضمونه المثالي أو العكس – أي أن مضمونه هو
الذي يشكل معناه، هذه تشكل الأساس لنظرية المعنى لدى هوسرل التي يعتبرها بوكنيسكي Bochenski
"واحدة من أغنى الأفكار في القرن العشرين قيمةً وتعود بنا إلى الفكر الأنطولوجي
الذي سادة في العصور القديمة والوسيطة، فإنها تدعم الأطروحة التي تذهب إلى أن
للمنطق مجاله الخاص – هو مجال المعنى"[36]
فالمنطق
لم يعد آلة للتكفير السليم كما أنه ليس علة نفسر به تاريخ الفكرة الميتافيزيقية
كما هو لدى هيجل، أو علة لتفسير قوانين الطبيعة كما في المنهج التجريبي، ولكنه
يمثل مقولات المعنى الخالص، فيعبر بالتالي عن ماهية الفكر الثابت، وهكذا
"يؤلف المنطق في نظر هوسرل – مجالا خصباً هو مجال المعاني أو الدلالات،
فإدراك معنى كلي يعني الوصول إلى ما ثابت في مقابل العرض والمتغير، وهذا يعني أن
الفنومينولوجيا قد تمكنت من اكتشاف ثراء مفهوم "المعنى" أو
"الدلالة" فأقامت عليه فلسفة في مقابل فلسفة التفسير بالعلة"[37].
وفي
ظل مفهوم مقولات المعنى التي يعبر عنها اهتمام المنطق المحض بمضمون قضاياه
وقوانينه، تنتفي العلاقة المتوتر التي كانت بين الانطولوجيا والابستومولوجيا في
فلسفات سابقة عن فلسفة هوسرل، حيث كان هنا لازمة لتأسس منهج يضمن لنا التطابق ما
بين الواقع والفكر، الأمر الذي جعل من المنطق في التصور التقليدي يقوم بهذا الدور،
فالعلاقة بينهما لدى هوسرل متعالقان لا يمكن أن نعي الأول من دون أن نستحضر
الآخر، فالمعنى يوازي ماهية الوجود لأن
"الماهية عند هوسرل إنما هي الشرط الضروري للوجود: فهي بناء أساسي يتميز عن
كل من "الصورة النوعية" و"المفهوم" نظراً لأنها تملك من
"المثالية" و"الثبات" ما يجعل منها موضوعاً لعلم حقيقي"[38].
معالم
المنطق المحض:
عندما
يتحدث هوسرل عن "العلم" فهو لا يقصد به العلم بالمعنى التجريبي أو
النفساني، ولكن العلم بالمعنى الواسع[39]، لذا صب
اهتمامه بـ" الترابط المثالي أو الموضوعي" الذي يعطينا "الوحدة
الموضوعية" للعلوم، والتي بدورها تعطينا "شرعية" المثال حيث انه "الرابطة
الموضوعية التي تعطي "الوحدة" إلى العلم من حيث أنه كذلك، يمكن أن يفهم
على أنه رابطة "الأشياء" التي تشير قصدياً لها خبرات التفكير الممكنة
والواقعية، وكذلك يفهم كرابطة للحقائق حيث تحقق الوحدة المادية صدقها
الموضوعي"[40]، فوحدة
العلم هي الترابط Interconnection بين
الأشياء وخبراتنا الفكرية الممكنة والفعلية المعطاة لنا قصدياً، إذ أن كل ما هو متعين
فهو إذن موجود كـ"حقيقة في ذاته"، ودلالة هذا لدى هوسرل هو "التعالق"
ما بين الحقيقة والوجود الذي يقوم على الضرورة،
"وهما معطيان لنا قَبْليا ولا يمكن فصلهما عن بعضها البعض"[41]، فقط
يمكننا ذلك في حال التنظير، لأنهما متعالقان في التعيين Determination ،
ويقصد هوسرل بالتعيين أي أن "ما من شيء يمكن أن يوجد إلا متعيناً وكونه كذلك
هو الذي يجعله موجوداً بشكل مستقل" وبالتالي "هو الشرط الضروري لإمكان
وجود الحقيقة في ذاتها"[42]. ولكن هذا لا يعني التطابق التام بينهما من
ناحية الهوية، "فترابط الحقائق يختلف عن ترابط الأشياء... لأن الحقائق التي
تصدق مع حقائقها ليس شرطا أن تتطابق مع الحقائق التي تصدق على الأشياء المتموضعة
فيها هذه الحقائق"[43]، إن تبادل
العلاقات بين الحقائق أكثر صدقاً من تبادل العلاقات بينها وبين الموضوعات، وهوسرل
هنا يريد أن يضمن للحقائق الخالصة ثباتها، وفي ذات الوقت لا يبخس من حق الوحدة
الموضوعية التي تنطوي على حقائق في ترابطها، فيتم الحفاظ على واقعية الموضوع،
وجوهر الحقيقة معاً.[44]
مفهوم
"الموضوعية" لدى هوسرل له معنى واسع: موضوع المعرفة قد يعني بأن ما هو
فعلي Real هو
مثالي سواء كان "شيء" أو "حدث" أو حتى "علاقة
رياضية"، لدى هوسرل الموضوعات - كما هي لدى ديكارت كذلك – لا تشمل
"الأشياء" الملموسة وحسب، ولكن "الأفكار" المعقولة كذلك،
وانعطاء هذه الموضوعات تعالقا في "الوعي" هي التي تشكل
"الموضوعية"، يقول هوسرل "عندما نقول بإجراء فعل معرفي أو - كما
يحلو لي أن أقول - نعيش في المعرفي، نقوم بالاهتمام بما يعني ويشترط هذا
الموضوع... وإن كان الحكم بينّاً داخلياً فإن الموضوع معطى"[45]، لأن
الموضوعات تتجلى أمامنا من دون تكلف، بل كواقع يُعطى لنا، وعندما ننجز فعل معرفياً
فردياً، يقوم على الحكم بالبيّنة الداخلية، فإننا في حقيقة الأمر نقوم "بأجراء"
تجريد امثالي Ideational
abstraction يجعلنا نقف على "الحقيقة" بدلاً من الموضوع الذي ينطوي
عليه هذا الحقيقة.
لكن
لابد من ضابط "للمعرفة العلمية" بالمعنى الواسع للكلمة، فالمعرفة بهذا
المعنى هي المعرفة التي تقوم على أساس راسخ Grounded knowledge،
و"رسوخ" أمر ما، يعني أن يكون ضرورياً في وجوده كما هو، ونستطيع أن نفهم
"الضرورة" هنا على أنها هي حاضن المعرفة الموضوعية لأنها تحققها كوضع
قائم بقوانين ضابطة، وهذا هو الذي يجعل من "المعرفة المرسَّخة" وحقيقتها
نفس الشيء. هذا يستلزم منا أن نشرح أكثر عما
هي "الحقائق" لدى هوسرل؟...
يصنف
هوسرل الحقائق إلى عام وخاص (فردي) Individual–
الخاص يتضمن تأكيدات مضمرة وصرحية للوجود الواقعي للجزئيات، بينما العام مبرأ من
كل هذه "الوقائعية"، بل هو يجيز الاستنتاج من واقع المفاهيم الخاصة
للوجود المحتمل للأشياء المفردة (الخاصة)، وبالتالي الحقائق الخاصة هي حقائق عرضية
من حيث هي كذلك، ولأجل ترسيخها على أساس ضروري، لابد أن تستعين بمسلمات وافتراضات
سابقة، وهذا هو حال العلوم الفردية في موضوعيتها، أما بخصوص الحقائق العامة،
فالوضع مختلف، لأننا نستند على قوانين معينة قائمة في قضايا يمكن الاستنباط منها
بذاتها، وهي "براهين" عامة تفضي بنا بالضرورة إلى قوانين معينة لا يمكن
أن نبرهن عليها لطبيعة خصائصها الماهوية (أي الخالصة)، وهذه القوانين تدعى
بـ"القوانين الأساسية"، ومن القانون الأساسي ينتج لنا الوحدة النسقية
لقوانين الكليات المثالية التي تنجم عن عملية الاستنباط، وهذا يشكل لنا مفهوم
"النظرية" بالمعنى الدقيق للكلمة، ونستطيع أن نجلوها من العلوم مثل
الحساب والهندسة والميكانيكا التحليلية العامة، فالحساب العام مثلاً يمدنا
بالنظرية التفسيرية للأعداد العينية الكمية، والميكانيكا التحليلية تمدنا بوقائع
الميكانيكا، وقسْ على ذلك... لكن هذا لا يعني بأن النظرية ذاتها هي
"معرفة" بل هي مجموعة من "الحقائق"، ووظيفتها التفسيرية ينبغي
أن تفهم - وفقاً لهوسرل - على أنها نابعة من ماهية النظرية ذاتها لا من أي واقع خارج
عنها، وهذا يتسق مع مفهوم المنطق المحض بحكم أنه "مجموعة من الحقائق البيّنة
بذاتها"[46].
وههنا
يسأل هوسرل ما الذي يجعل الحقائق تنتمي كلها إلى علم واحد، وما الذي يكوّن وحده
موضوع هذا العلم؟... إن مبادئ الوحدة قد تنقسم إلى نوعين: جوهري
والزائد عن الجوهري Extra- essential (أي وقائعي)، يقول هوسرل مشيراً إلى الضرب
الأول: "إن وحدة الجوهر بين حقائق العلم الواحد هي وحدة التفسير"، لأن
غاية تفسير نظرية ما تكمن في معرفة القوانين الأساسية Basic Laws،
وهكذا فإن وحدة التفسير هي وحدة النظرية، لأنها هي التي تفسر تجانسها، لكن علينا أن
نفهم بأن وحدة التفسير هي المقصودة، وليس التفسير ذاته. والعلوم التي تتوحد كنظريات تتألف مثالياً من
كل الوقائع الممكنة والمبنية على قانون أساسي، تدعى في هذا الصورة بالعلوم
المجردة، ومن الأفضل لدى هوسرل أن نطلق عليهم علوم نظرية أو نومولوجية * Nomological . لأنها علوم تبحث في "القانون"
الموحد، وهي بالتالي تمد العلوم العينية Concrete science بعناصرها النظرية.
وهذه
العلوم تنتمي إلى النوع الثاني - أي العلوم الوقائعية - التي لا تهتم بالجوهري كما
هو الحال في النوع الأول، ولكنها تهتم بوحدة الأشياء، أي أن حقائقها لا تتصل إلا
بشيء واحد يرجع إلى أصل تجريبي، نستطيع أن نطلق عليها أيضاً العلوم الأنطولوجية، مثلا
الجغرافيا وهي من ضمن هذه العلوم "تتوحد" في تمركزها حول
"الأرض" ، وعلم الرصد الجوي تتوحد في تمركزها حول "الظواهر
الجوية"، وقسْ على ذلك في علوم أخرى مثل الفلك والتاريخ الطبيعي. لذا لا غنى لمثل هذه العلوم من أن تربط موضوع
بحثها بالعلوم النومولوجية، إذ أن مواضيعها الفردية لا تكون ذات أهمية إلا أن صيغت
في نظرية عامة، وذات الشيء ينطبق على العلوم المعيارية، فلابد لها أن تعول على العلوم
النومولوجية، لكي تشد من عضد قوانينها العلمية.
من
هنا نستطيع أن نرى مبتغى هوسرل بوضوح إذ أنه يسعى لكي تكون شروط إمكان العلوم هي
ذاتها شروط إمكان النظرية على وجه العموم، ويضيف هوسرل على ذلك قائلاً:
"تتألف النظرية كما هي كذلك من حقائق مترابطة فيما بينها ترابطاً استنباطياً،
لذلك الإجابة على سؤالنا المتعلق بشروط إمكان العلم أو النظرية بعامة هي في الوقت
نفسه إجابة على السؤال الأعم المتصل بشروط إمكان الحقيقة عموماً، وعلى الوحدة
الاستباطية كذلك بعمومها"، وهنا يصل هوسرل إلى ذات المسألة التي وصل لها كانط
في "إمكان التجربة" [47]، مسألة
التجربة لدي هوسرل تتمثل في وحدة شرعية (مصداقية) الموضوع، وهكذا يرى هوسرل إن هذا
السؤال المتعلق بإمكانية التجربة ذاتها يقع تحت مفهوم الوحدة النظرية.
لكن
السؤال إن دققنا النظر متصل بشروط إمكان المعرفة النظرية لدى الإنسان عموماً، وهي
شروط تتكون - كما هو ملاحظ - من فعلي في جزء، وفي الجزء الآخر مثالي، وإن تغاضينا
عن الجزء الفعلي لأنه مرتبط طبيعياً بشروط نفسية. والشروط المثالية أما أنها شروط عقلية Noetic
قبلية أي المعرفة كما هي معرفة من دون أي تجربة، أو أنها شروط منطقية خالصة مبنية
على مضمون المعرفة، هوسرل يعتبر هذه المعرفة (المرتهن إلى المضمون) بينّة بذاتها،
نجد هذا في مضامين الحقائق والقوانين والرواسخ (Grounds)
والمبادئ، فهي مفاهيم قائمة بذاتها، تدل على حقيقتها بذاتها، ولذلك "لا
يدينون لنا بحالتهم الحقيقية، لأننا نحن من نتبصر بهم، بل بالأحرى نحن نستطيع أن
نتبصر بهم، لأنهم كذلك"[48]، الحقيقي هو
"حقيقي" لأنه كذلك، وليس
لأننا نراه كذلك! وهذا ما يمكّن الذات من فهم هذه المبادئ بديهياً، لذا هي شروط محقّقة
بذاتها، وهذا ما يمكننا من تقصي ما قد يتخللها من ذاتية أو تجربة خارجية.
هنا
يثير هوسرل سؤالاً لا يختص بـ"شروط" إمكان المعرفة النظرية" وحسب
(وهو ما سبق أن طُرح آنفاً)، ولكن أيضاً يختص بمضمونها، غير أن هذا السؤال لا يعتبر
مشكلا لدى هوسرل، لأنه يعرّف النظرية على أنها مضمون مثالي أو عقلي للمعرفة
الممكنة شأنها في ذلك شأن الحقيقة والقانون وغير ذلك، وبما أن الحقيقة الواحدة قد تعبر
عن صورة الترابط بين الحقائق المنطوية في مفاهيم حقيقية، وهذه "الصورة"
هي المضمون المثالي لكل الأفعال الفردية المعرفية التي تفي بمستلزمات الحقيقة، فإننا
نستطيع أن نقول بأن " ثمة حقيقة واحدة تطابق طائفة من الأفعال المفردة التي
لديها نفس "المضمون" الذي هو ذاته يمثل مثالياً هويتها ذاتها، وبهذا
النهج، يطابق هذا المضمون المثالي والمتطابق الهوية طائفة من الفئات المعرفة
المفردة، والتي في كل مجموعة منها، سواء ما يحدث الآن أو ما يحدث فيما بعد، أو في
هذه الموضوع أو ذاك، هي عبارة عن نفس النظرية "[49]، وهذا يعني
أن "الأفعال" لا تأتي إلى النطاق المعرفي فرادى، ولكن في مجموعات من
الحقائق المثالية – وفي أشكال صورية، وبالتالي تعدد الأفعال والحوادث، لن يغيّر "النظرية"
التي تتضمن صورياً هذه الأفعال والحوادث، غير أن هوسرل يؤكد هنا أيضاً بأن النظرية
لا تتكون من أفعال وحوادث عملية المعرفة ذاتها، بل من المضامين المثالية الخالصة
التي تنظّر لهذه الأفعال والحوادث، سبق أن ذكرنا بأن هوسرل يفرق بين فعل الحكم
ومضمون الحكم ذاته، وهو يقيسها بذلك.
لكن
ينجم عن ذلك سؤال وهو ما هو القانون الكلي الذي يحكم شروط الإمكان في النظرية، وما
هو الذي يكوّن الجوهر المثالي للنظرية بما هي كذلك، ويكوّن إمكانياتها الأولية Primitive
Possibilities ؟ يختصر مارفن فاربر إجابة هوسرل، ويقول: "المسألة تكمن في
تحديد الإمكانات الأولية أو المفاهيم الجوهرية التي على أساسها تتكوّن نظرية
الإمكان أو المفهوم، ويتبع هذا، القوانين الخالصة التي تستند على تحديد هذه
المفاهيم والتي توحد النظرية بجماعها من حيث كونها نظرية"[50] ، يعود
هوسرل في رده هذا إلى الأساس الجوهري للمفاهيم والقوانين التي يرى بأنها تحدد
إمكان النظرية لأنها هي التي تشكل " مكوّنات النظرية في العموم (شروط
إمكانها) والتي تضبط قبلياً واستنباطياً سمة فكرة النظرية بأنواعها الممكنة"[51].
المنطق علم معياري ولكن من منظور كونه نظرية
العلم
أفتتح هوسرل كتابه "مقدمة في المنطق
المحض" بالحديث عن "فكرة العلم" Idea of science ،
والمقصود بـ"الفكرة" هنا هي المفهوم المثالي للعلم – وهو مفهوم شامل، إذ
"كل ما يختص بالعلم من حيث أنه كذلك، وكل نوع من العلوم ويشمل هذا علوم
الإمكان والمثال وغيرهما يسمى لدى هوسرل بنظرية العلم"[52]. وهوسرل يدين بهذه الفكرة بولزانو، التي ضمنها
كتابه "نظرية العلم"، ورغم اعتراف هوسرل بفضل أسهام لبولزانو إلا أنه –
أي بولزانو - لم يربط أطروحته بالمنطق المحض بالمعنى الذي نظّر له هوسرل. فـ "نظرية العلم" لدى هوسرل هي
ممارسة المنطق المحض على التطبيقات المعرفية لأجل تأسيسها نظرياً ومعيارياً، إذ أن
هوسرل "يقر بأن المنطق حقلاً معيارياً وقيمته العلمية تكمن فيما يقدمه من
خدمة للعلم"[53]. لكن كيف يكون المنطق محضاً ومعيارياً في نفس
الوقت؟! هذا ما سوف يجيب عليه هوسرل من خلال صياغة مفهومه الجديد عن "نظرية
العلم" A
theory of science...
من ضمن مهام الفلسفة الميتافيزيقية هو تقصي
المفاهيم التي تستند عليها العلوم، وذلك من خلال النظر في هذه المفاهيم لأجل الكشف
عن حقائقها، ومن هنا يتم تأسيس "الواقع" في العلوم التي هي بطبعها
ناقصة، إذ أنها تقوم على فرضيات مسبقة، تم التسليم بها من دون أي مساءلة، لذ هي في
حاجة إلى تأسيس نظري يمنحها الأرضية الصلبة التي على أساسها تقيم نظرياتها
العلمية، وغاية النظر الميتافيزيقي هو فحص هذه "الفرضيات" التي تنطلق
منها هذه العلوم في نسقها المعرفي.
غير أن التأسيس الميتافيزيقي لا ينجح دوماً في
القيام بواجبه الملقى على عاتقه – على الأقل على أكمل وجه ، فعلى سبيل المثال إن
الفرض المسبق الذي يقول بأن هناك عالماً خارجياً يمتد في الزمان والمكان هو الذي
يمنح الهندسة الأقليدية أساس استنتاجاتها الاستنباطية، وتستند على أن للمكان أبعاد
ثلاث، لكن –وهنا ينبغي التأكيد- هذه "الفرضية المسبقة " نفسها ليست
بالضرورة صحيحة معرفياً. ليس هذا وحسب، بل
إن التأسيس الميتافيزيقي قاصر عن الوصول إلى معارف أخرى مثل المعارف الرياضية
البحتة، إذ أنها ذات مضمون مثالي لا واقعي، وطالما أن الميتافيزيقا لا تمتلك كل
المقومات المطلوبة لتأسيس العلوم معرفياً - على الأقل ليس كل العلوم، فلابد إذن أن
يقوم علم آخر أكثر دقة وشمولية بهذه المهمة، وهذا العلم هو ما سماه هوسرل
بـ"نظرية العلم"، والمسوغ إلى هذا العلم نجده في الحاجة إلى تأسيس
معايير Norms تضبط
تطبيقات المناهج العلمية، وتأسس لمعارفها على أسس يقينية، إن العلوم خاصة الجزئية
منها كالفيزياء والكيمياء وغيرهما تفتقر إلى الوضوح والدقة، فهي علوم فردية تفتقر
إلى "الوحدة" التي لا تقوم للعلم قائمة إلا بها من حيث أنه علم، والمنطق
بوصفة نظرية للعلم يقدم الإطار النظري الذي قد يساهم في اكتمال هذه العلوم.
لكن كيف يمكننا تحقيق ذلك؟... يرى هوسرل بأن هذا
ممكن فقط إن قمنا بتأسيس العلم على "بيّنات"، ويقصد هوسرل بالبينّة:
التجربة المباشرة التي يتم بها التوصل إلى الحقيقة بالبداهة العقلية، ويلخص لنا الباحث
سلامة مسوغ هوسرل هنا، ويقول: "العلم – كما يشير اسمه - مرتبط بالمعرفة، ولكن
هذا لا يعني أنه مجموعة من أفعال التعرف، فيما يهم العلم بالدرجة الأولى هو مضامين
المعرفة، وليس أفعال التعرف، والمعرفة هي التي تمكّننا من بلوغ الحقيقة والحقيقة
هي موضوع الحكم الصحيح، غير أن صحة الحكم أمر غير كاف في المعرفة، لأن أهم ما
تقتضيه أن تكون بديهية، بحيث تكون على يقين بأن ما سلمنا به موجود يقيناً، وما
نبذناه غير موجود فعلاً، والبرهان الحق ما كان متمتعاً بصفة البداهة الداخلية Inward Evidence"[54].
والبيّنة الداخلية التي تتمثل في "أفعال التعرف
Cognitions
المعطاة استبصاراً، تختلف بشدة عن المعتقد الأعمى، وكل الإحساسات المرتبطة بقناعة
ما"، والبينّة الداخلية لا يمكن فصلها عن البيّن بذاته، Self-evident،
" مثال هوسرل النموذجي على الفعل البيني [البديهي] الذي يسوغ نشاط التعرف هو
أفعال الإدراك العادية، على سبيل المثال، تقدم الرؤية (Seeing)
الموضوع تقديماً طبيعياً بكل ما يصطحب الموضوع من بينة ضرورية لضمان الحكم على
قضية: "أنا أرى ص"، إذ كل ما نحتاج لكي نجعل فرداً آخر يرى ذلك هو مجرد
جذبُّ انتباهه إلى هذا الشيء"[55] لأنه معطى
بنفسه بكل بساطة سواء ليَّ أو لفرد آخر. لكن ليست كل المعارف تستند على "بيّنات"
من مثل هذا النوع، وبالتالي لابد أن يقوم المنطق بوصفة نظرية للعلوم بالتحقق من
المفاهيم والمناهج في العلوم، لتدعيم البراهين التي تستند عليها العلوم، وبالتالي
يغزز هذا من يقينية النتائج التي تخلص لها هذه العلوم، وهذا هو الدور المعياري
للمنطق.
ووفقا لهوسرل إن "المعرفة" (بالمعنى
الضيق لها) هي عبارة عن البينّة البديهية التي يتم بها تحصيل أو عدم تحصيل قضية
معينة، أي نفي أو إثبات "واقعة" معينة، مثل القضية التي تقول: (س) هي (ب)
أو (س) ليست (ب)، أي هي البينّة التي تؤسس لإمكانية المعرفة في قضية واقعية معينة
اما بالثبوت أو بالسلوب، وهي أيضاً التي يتم على أساسها احتساب درجة احتمالية مثل
هذه القضايا. لكن في الطرف الآخر، هناك ايضا
معرفة بالمعنى العام، وهي التي تتعلق بأنطولوجيا الوقائع، لا باحتمالية تحققها،
فالمرء بإمكانه التحدث عن معرفة بدرجات معينة وفقاً لدرجة صحة احتمالها، وعلى هذا
الأساس، البينّة (س) هي (ب) تمثل الحد المطلق المثالي للمعرفة، ولكنها ليس هي كل
"المعارف" التي نكتسبها، وهذه المعارف تبلغ مداها من الوضوح والصدق إن
تمّ بالطبع استبانتها مباشرة وببداهة كوحدات نسقية، لا كوقائع مفردة، وهذه الوحدات
لها "وجود" تلقائي، وكل ما علينا فعله هو اكتشاف هذه الأنساق لا
اختراعها، بمعنى أن المعرفة موضوعية لها وجودها الحقيقي، وليست تمثلاً للعقل وحسب.
فالمعرفة إذن لا يتم تحصيلها فقط من خلال تمثل
الوقائع، وكذلك من دون استخدام الطرائق العلمية والبحثية، والقضايا التي لا حصر
لها يمكن أن نلمّ بها بعد أن يتم تأسيسها نسقياً ومضمونياً – أي كوحدات مثالية
وصورية، من هنا نستطيع أن نقرر بأن العلوم ونظرية العلم (المنطق) ضروريان للمعرفة. ولابد على هذا الأساس أن نخلص إلى نتيجة مفادها
أن المعرفة هي نسق عقلاني، وليس فوضوياً يقوم على الصدفة العرضية، والروابط Connections
البرهانية في المنطق هي التي تجعله يتصف بذلك، على سبيل المثال: القضية البرهانية
التي تقول بأن المثلث المتساوي الأضلاع هو مثلث متساوي الزوايا تستمد صدقها من
القياس التالي: كل مثلث متساوي الأضلاع هو متساوي الزوايا، فإن المثلث "س ص
ع" متساوي الأضلاع، لذا هو متساوي الزوايا.
وهنا أمثلة أخرى لا تحصى تفيد ذات الشيء، وهي كلها قضايا قَبْلية مفادها أن
كل برهان يطابق هذه "الصورة" هو بالضرورة صحيح، شريطة أن تكون المقدمة
صحيحة أيضاً، وهوسرل هنا
- كما هو واضح – غير معني
بالجانب الوقائعي الفردي للعلم، ولكن بالجانب الصوري، لأنه هو الجانب الذي يؤسس الحقيقة
في المعرفة، وهذا الجانب الصوري هو الذي يهتم به هوسرل إذ انه أمر منعزل عن المجال
المعرفي التطبيقي الذي يتمثل فيه سواء كان ذلك في الفيزياء أو في الكيمياء أو غير
ذلك، ويترتب على ذلك أمران مهمان: أولا، هذا
الجانب النظري هو الذي يجعل من العلوم ممكنة، وهي التي تشكل بالتالي نظرية العلوم.
وثانياً، من دون أن يكون هذا الهيكل النظري مستقلا عن العلوم، رغم ذلك محايث لها
بصورة من الصور، يصبح لكل علم منطقه الخاص، ومن هنا نظرية العلم هي هذا الشكل العمومي لإمكانية المعرفة
ذاتها، وليست المعرفة بذاتها!
ويرى هوسرل أن المنهج العلمي أما أن يكون برهاناً
أو جهازاً (أداة) Device لتأسيس البرهان، من هنا يمكن أن نقيم البرهان في العلوم بطريقة التعويض
والاختصار، فلا نبذل جهداً كبيراً في كل مرة نقف على ذات القضية، لأن براهين مثل
هذه القضايا قد تمّ تأسيسها مسبقاً، وهذا ما نشهده واضحاً في الجبر، فالمعادلات
الرمزية تعوض عن الشرح المطول للمفاهيم.
لكن البراهين الفردية لا تصنع "علماً"،
فالعلم كما قال أرسطو هو العموم، من هنا وحدة الرابطة والتسلسل في البراهين ضروري لصناعة
المعرفة، وهذه الوحدة للمثال لها هذه الوظيفة للترويج عن البحث في مملكة الحقيقة،
ومهمة نظرية العلم هو التعاطي مع العلوم كنوع من الوحدة النسقية Systematic
Unity لتدرس مجالها والبنية الداخلية للنظريات، وهكذا نفهم بأن نظرية
العلم لا تبحث في منهج المعرفة في العلوم وحسب، ولكن أيضاً في بنية العلوم ذاتها
لكي تقف على ما يجمعها في نسق موحّد. المنطق
- وفقاً لهذا - هو مجال نظري ومعياري، ورغم أن قوانين المنطق ذات مضمون مثالي قبلي
إلا أنها تؤسس للعلوم الأخرى، وجوهرها المستقل عن طبيعة التكوين البشرية يخولها أن
تخدم العلوم الأخرى، عندما يتم توظيفها كقواعد معيارية.
***
الخاتمة
لا شك أن فلسفة هوسرل بغض النظر عن اختلافنا او
اتفاقنا معها مثلت منعطفاً بارزاً في تاريخ الفلسفة الحديث، لأجل ما قدمته من
إسهامات في "نظرية المعرفة "، وهذا الفضل يعود إلى هوسرل والجهود
الجبارة التي بذلها لتأسيس هذا الفرع من الفلسفة (الفنومينولوجيا)، رغم مشاركة
ماكس شيللر وهو المعاصر له في الاهتمام بالظاهرات، إلا أن عمق وكثافة طرح هوسرل (لقد
خلف فقط وراءه ما يوازي 45 ألف ورقة لا تزال تحت الطبع) مكّنه من الاستئثار بالأمر،
وذلك من خلال الأثر الذي تركه على عديد من الفلاسفة والتوجهات الفكرية الحديثة.
وجذور الأفكار التي طرحها هوسرل في "مقدمة
المنطق المحض" سبقه فيها بعض الفلاسفة، نظرية العلم مثلا قال بها بولزانو من
قبل، ورؤيته في المنطق الصوري وعلاقته بالفلسفة الأنطولوجية نجدها أساسياتها في
طرح "مينونغ" Meinong المسماة "نظرية الموضوعات"،
واهتمامه بالشروط القبلية للمعرفة والمعرفة المتعالية تتقاطع مع كثير في جوانبها
بفلسفة كانط النقدية المتعالية، بل إن هوسرل استفاد كثيراً من نتورب الفيلسوف
النيوكانطي المعاصر له، رغم ذلك كل الفضل يرجع إلى هوسرل في مزج كل هذه الأطروحات
في نظرية ظلت تتجدد وتتعمق حتى آخر أيامه في علم حمل مهمة إنشاء نسقاً فلسفياً
يحتضن جميع العلوم، وهو بلا شك أكبر مشروع – على الأقل طموحاً - عرفه تاريخ
الفلسفة بعد أرسطو، هنا يأتي أهمية الاهتمام بهوسرل، ولا شك أن الاهتمام بأول
بوادر هذا المشروع، الذي تمثل في "مقدمة في المنطق المحض" هو الطريق
الأقوم، للوصول إلى تخوم وقعر فلسفة لها هذا الاتساع والعمق مثل الفنومينولوجيا.
ومنذ "المقدمة" التي الحقت في كتاب
"مباحث منطقية"، ونحن نلحظ سعي هوسرل المبكر في تأسيس علم يبحث في شروط
المعرفة النظرية التي تختص بالماهيات أو بالمعاني التي تعكس كل ما هو حقيقي
ومثالي، وصحيح أن هوسرل لم يعد يستخدم مصطلح "المنطق المحض" أو "نظرية
العلم"، إلا أن كل هموم هذا المشروع حمله في منعطفه الفلسفي التالي، وهو
تأسيس الفنومينولوجيا المتعالية التي همها هو ذات هم المنطق المحض، أي وإن تخلى عن
"المنطق المحض" إلا أنه لم يتخل عن مشروعه الفلسفي في قيام فلسفة صارمة
ودقيقة، تؤسس لامكانية قيام كافة العلوم.
رأى هوسرل أن النفسانية بنزعتها التجريبية كانت
عقبة كأداء في طريق قيام أي معرفة تصبو إلى معرفة مثالية، وهو كذلك يؤكد هذا الأمر
في فترة لاحقة من اطوار فلسفته إذ يصرح في كتاب "الأزمة": "أن نفوذ
النزعة الطبيعية الذي جثم على السيكولوجيا، ولم تتمكن من تجاوز جدياً إلى اليوم هو
السبب الرئيسي في عجز الفلسفة الترنسندنتالية عن الخروج من وضعيتها الحرجة، وفي
بقائها نتيجة لذلك متورطة في تركيباتها البراقة"[56] إن نفوذ العلوم
الطبيعية الذي أخذ يتعاظم منذ القرن التاسع عشر أحّلها محل التاج على رأس كافة العلوم
بما في ذلك الفلسفة! لا لأنها أصدق نبأً من الفلسفة (أو على الأقل لنقلْ: إمكانيات
الفلسفة) بل لأنها أكثر عملية وبرجماتية، مكّنت الإنسان من السيطرة على العالم
المادي، فلم يعد السؤال هو عن الحقيقة والمعرفة بقدر ما الذي يمكن الإنسان من
السيطرة والهيمنة، وهذا لا شك لا يهدد العقل النظري وحسب، ولكنه يهدد الإنسان
ذاته، لأن من شأنه أن يقضي على أي معنى لوجوده وتاريخه ولاهوته، "إن انهيار
الاعتقاد في فلسفة شاملة تقود الإنسان الجديد يعني في الوقت نفسه انهيار الاعتقاد
في العقل، وهو لدى هوسرل "ما يمنح في بالمقام الأخير معنى لكل ما يعتقد أنه
كائن لكل الأشياء والقيم والغايات، وبذلك أيضاً ينهار الاعتقاد في عقل
"مطلق" يستمد منه العالم معناه، كما ينهار الاعتقاد في معنى التاريخ،
معنى الإنسانية، فحريتها من حيث هي مُكنة الإنسان على أن يمنح معنى عقلياً لوجوده
البشري الفردي والعام"[57]،
وهو
بهذا كان من أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا إلى مآل الفكر الأوربي، والإشكاليات التي
بدأ تظهر آنذاك.
إن هم انشاء علم في الماهيات يؤسس لامكانية
المعرفة هو الهم الاساسي الذي صاحب هوسرل حتى آخر حياته، بغض النظر عن المنعطفات
الفكرية التي مرّت بها فلسفته، وخلافا إلى حد ما عن كل من ديكارت وكانط سيما الأول،
فقد بدأ مشوار تأسيس نظرية في المعرفة بنقد مفهوم المعرفة في فضاء العلوم الطبيعية
(وهو ما تمثل بنقده للنفسانية)، فالنقد هنا كان شرطا لتأسيس ميتافيزيقا لتمكين
قيام المعرفة، إذ "إن نقد المعرفة بهذا المعنى هو شرط امكان
الميتافيزيقا"[58]، لدى كانط
النقد هو عبارة عن تشريح للجهاز المعرفي (التعقل والحدوس والمقولات) بينما لدى
هوسرل هو دحض للريبية القابعة في فكر العلوم الطبيعية كي يمهّد لإمكان قيام نظرية
في المعرفة، وكان هذا هو المنطق المحض، ومن حيث أنه نظرية في العلوم فإنه يقوم
بدور معياري لتضبط المعرفة، بينما، هو يؤسس للمعرفة بكونه "نظرية"
للنظرية المعرفية من حيث انه يمثل نسقا للحقيقة ذاتها بصفته الوصفية!
بيد
أن هوسرل وهو يدرك هذه الإشكالية كان على وعي بحجم المشروع، فطريق تأسيس علم يهتم
بالكليات والماهيات والمعنى على أساس ميتافيزيقي جديد ليحل لنا أزمة المعرفة والعلم
يبدو طريقا طويلاً ووعر، لذا كان هوسرل يرى بأننا لا نزال في البدايات، وهذا ما كان
يعنيه عندما قال: بأننا "فلاسفة مبتدئون" في المحاضرة التي ألقاها في
باريس بعنوان (تأملات ديكارتية)،ولكن "هذا لم يكن تماهياً مع مستوى ثقافة
الحاضرين، بل بالعكس، فقد ألقيت المحاضرة لجمع غفير، يضم نخبة من رواد الفكر في
فرنسا، بل المقصود بأننا، ويشمل هذا هوسرل نفسه، لا نزال في بداية اكتشاف مجال
بحثي جديد، قد أطلق عليه هوسرل "الوعي المتعالي" أو "الذاتية
المتعالية".[59] ولهذا كان هوسرل ينظر للفنومينولوجيا على أنها
فلسفة المهام "اللامتناهية"، فالتعاطي مع "المعرفة" لاشك أنه
ممارسة مستمرة، وتشكلها من حيث أنها نظرية في التأمل الفكري يستلزم أن تكون ممارسة
مستمرة بذاتها ولذاتها، وهو الأمر الذي يحيلها إلى نظرية وممارسة...! وأظن هذا ما
نقل فلسفة هوسرل من كونها تأسيسية (ويتضح ذلك في محاولته لتأسيس المنطق المحض) إلى
فلسفة منهجية تسعى إلى تأسيس أدوات تأملية تمكّن الفلسفة من أن تقوم بدورها الذي القي على عاتقها
قديما منذ أفلاطون، وهو تأسيس امكانية المعرفة.
لعل
في هذا وحسب، يكمن نجاح هوسرل، فإن لم يستطع أن يمنع النزعات النفسانية
والطبيعانية بكل جنوحهما النسبي والريبي من الهيمنة على الفلسفة التي كانت في نظر
هوسرل تحمل مهام مختلفة تمام الاختلاف عن مهام العلوم الطبيعية، فقد اجتاحت
الفلسفة الوضعية والتحليلية والعلمية مجال الفلسفة في مطلع القرن العشرين، ناهيك
عن سيطرت النسبية للفضاء الفكري الذي بدأ يفقد الأمل في وجود حقيقة مطلقة، إلا أنه
استطاع بلا شك أن يقيم لنا آفاق فلسفية جديدة لا شك لديّ بأنها ستظل خالدة،
والمحطة الأول في هذا الفلسفة هي نقده للنفسانيين، وتأسيسه لمفهوم المنطق المحض،
وكان لابد لنا –إذن- من الوقوف عليها، ولو لبرهة من الوقت، وآمل أن هذا هو الذي
حققه هذا المبحث.
*** تم ***
الرياض
2009-05-26
سليمان السلطان
المراجع:
سلامة،
يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند أدموند هسرل
ابراهيم،
زكريا، دراسات في الفلسفة المعاصرة
هوسرل،
أدموند:
· أزمة
العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة اسماعيل المصدق
· فكرة
الفينومينولوجيا ترجمة فتحي انقزو
كانط،
عمانويل، نقد العقل المحض
رجب،
محمود، المنهج الظاهرياتي في الفلسفة المعاصرة
Bustamante,
Cristian Bryan, Husserl’s Criticism of Psychologim
Moran,
Dermont, Introduction to Phenomenology
Husserl,
E., Logic Investigation Volume 1
Farbar,
M., Foundation of Phenomenology
Bochenski,
I., Contemporary European Philosophy
Mohanty,
J.N., The Development of Husserl – an essay within The
Cambridge Companion to Husserl
[1]
Bustamante, Cristian Bryan, Husserl’s Criticism of Psychologsim
[2] Moran,
Dermont, Introduction to Phenomenology, p. 66
[3] Ibid, p. 101
[4] رأى بعض الباحثين بأن
فضل تحول هوسرل من النفسانية التي قال بها في كتابه "فلسفة الحساب" يعود
إلى نقد فريجة له، فقد استند نقده على التفرقة بين جوهر الرياضيات المثالي
ووقائعية علم النفس، وهذه كانت فكرة مركزية في طرح هوسرل الناقد للنفسانية كما
سنلحظ في هذا البحث.
[5] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 101
[6] سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند
أدموند هسرل، ص149
[7] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 102
[8] سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند
أدموند هسرل، ص 150
[9] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 128
[10] Ibid,
p. 128
[11] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 105
[12] سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند
أدموند هسرل، ص 150
[13] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 129
[14] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 104
[15] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 128
[16] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 104
[17] Ibid,
p. 109
[18] Ibid, p
109
[20] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 115
[21] سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند أدموند
هسرل، ص156
[22] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 112
[23] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 47
[24] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 43
· الدور في المنطق هو توقف الشيء على ما يتوقف
عليه (تعريفات الجرجاني) كأن يقول أحدهم بأنه صادق لأن قوله هذا صادق
[25] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 111
[26] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 54
[27] Ibid,
p. 52
[28] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 75
[29] سلامة، يوسف سليم الفينومينولجيا المنطق عند
إدموند هسرل، ص 173
[30] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 79
[31]
Bochenski, I. , Contemporary European
Philosophy, p. 133
[32] Ibid,
p. 103
[33] Farbar
M., Foundation of Phenomenology, p. 100
[34] Quoted
from Farbar M., Foundation of Phenomenology, p. 101
[35] منقول سلامة، يوسف سليم من
الفينومينولوجيا المنطق عند إدموند هسرل، ص 246 عن Welch
E Parl: The Philsophy of Edmund
Husserl” p. 47
[36] Bochenski I.
M., Contemporary European Philosophy, p.134
[37] سلامة، يوسف سليم من الفينومينولوجيا المنطق عند
إدموند هسرل، ص 198-199
[38] ابراهيم، زكريا، دراسات في الفلسفة المعاصرة ص
324
[39] لقد لاحظ محمود رجب بأن العلم
هي ترجمة للكلمة الألمانية Wissenschaft وهي الترجمة التقليدية
المألوفة حتى في اللغات الأوربية، على أن يكون العلم – كما لاحظ فندلباند بحق في
مستهل كتابه عن "تاريخ الفلسفة" أن المصطلح الألماني أوسع من العلم
بمعناه الخاص بكثير، فهو يشتمل كل دراسة نظرية تطلب الوصول إلى حقيقة ما، أي أن
يشمل إلى جانب العمل بمعناه الخاص، الفلسفة واللاهوت إلخ والجدير بالذكر في هذا
المقام أن كلمة "علم وكلمة عالم في اللغة العربية لا تقتصر على معناها الذي
يحدد استعمالها لعلم الطبيعة فحسب، بل يتسع ليشمل ميادين أخرى، وهذا أقرب إلى كلمة
العلم كما هي في الألمانية – أنظر الحاشية في "المنهج الظاهرياتي في الفلسفة
المعاصرة" – ص 45
[40] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p.139
[41] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 144
[42] سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند
أدموند هسرل، ص248
[43] Ibid, p
145
[44] آخر شيء يريد هوسرل أن يفهم من كلامه هذا أن
المفاهيم هي تجريد تعميمي للموضوعات الخارجية (فهذا هو كلام التجربيين مثل هيوم
ولوك وهو مرفوض بتاتاً من قبل هوسرل) ولكن المقصود هو أن التجريد هذا خاص بالحقيقة
ذاتها، لا موضوعاتها كما يرى التجربيون، فالموضوع كحالات فردية أو انطباعات حسية
ليست من اهتمامات فلسفة هوسرل كما يقول مراراً، كما أن هذا "الامتثال"
لا ينبغي أن يفهم على أنه فعل إجرائي بل هو حدس بديهي، وإنما لغرض الشرح وحسب قدمت
بصورة اجرائية.
[45] Ibid,
p. 145
[46] Moran,
Dermont, Introduction to Phenomenology, p. 95
* النومولوجيا هو دراسة واكتشاف
القوانين العامة الفيزيقية والمنطقية
[47] يشير
كانط في كتابه نقد العقل المحض: "إن شروط إمكان التجربة بعامة هي أيضاً شروط
إمكان موضوعات التجربة ولها من ثم مصداقية موضوعية في الحكم التأليفي [التركيبي]
القبلي". فدور المفاهيم في المنطق
المحض في تمكين المعرفة على أساس موضوعي، لا تقل عن دور الشروط القبلية في تحقيق
الموضوعية لدى كانط. أنظر نقد العقل المحض ص: 124-6
[48] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 142
[49] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 151
[50] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 142
[51] Husserl
E., Logic Investigation 1, p. 152
[52] Moran,
Dermont, Introduction to Phenomenology, p. 94
[53] Farbar,
M., Foundation of Phenomenology, p. 103
[54] سلامة،
يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند أدموند هسرل، ص209
[55] Moran,
Dermont, Introduction to Phenomenology, p. 95
[56] هوسرل، أدموند، أزمة
العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، ص 489
[57] المرجع السابق ص 55
[58] هوسرل، إدموند، فكرة
الفينومينولوجيا ص 32
[59] Mohanty, J.N., The
Development of Husserl – an essay within The
Cambridge Companion to Husserl, P. 2